السبت 30 نوفمبر 2024
More forecasts: Wetter 4 wochen
رئيس التحرير
محمود المملوك
أخبار
حوادث
رياضة
فن
سياسة
اقتصاد
محافظات

نجيب محفوظ كان شبعان ثقة في النفس

الأربعاء 28/أغسطس/2024 - 02:40 م

تربطني بالأديب المصري السكندري الرائع الأستاذ سعيد سالم الحاصل على جائزة الدولة التقديرية في الآداب عام 2012، علاقة إنسانية وثيقة، وأعتبره منذ أن تعرفت عليه بشكل إنساني مباشر أستاذي وشيخي؛ لأنه صاحب فلسفة ورؤية مميزة في الحياة والكتابة، ولأنه إنسان بسيط متواضع غير متكلف في حياته وعلاقاته وكتاباته، إنسان متصالح مع ذاته وخياراته ومترفع تمامًا عن صغائر الناس والمعارك الصفرية التي تدور دائمًا بين المبدعين والمثقفين، ولأنه في النهاية يعيش ويرصد الحياة والناس ويكتب بعقل فيلسوف، وروح صوفي، وخيال وبلاغة حكاء قدير.   

والأستاذ سعيد سالم الجميل للغاية على المستوى الإنساني، هو أيضا واحد من أعظم كتاب القصة والرواية في مصر؛ قال عنه الأستاذ نجيب محفوظ: "سعيد سالم صاحب أسلوب ينبض بالحياة والبساطة والتلقائية". وقال عنه الدكتور يوسف إدريس: "سعيد سالم صاحب مدرسة في الكتابة وطريقة خاصة، وسوف يظل أدبه يثير حوله الكثير من العواصف الخلاقة".

وقد تعلمت من خلال قربي من الأستاذ سعيد سالم الإنسان وحواري معه، ومن خلال قراءة أعماله الروائية والقصصية، حب الإسكندرية وفن عيش الحياة والاستمتاع بها. وتعلمت درس عمري الذي ضمنه في مقدمة روايته "الفصل والوصل" الصادرة عام 2016 عندما قال: "السعداء هم من أطلقوا لأرواحهم العنان بلا عائق في فضاء الكون العظيم". 

وتعلمت أيضًا أن دستور المفكر الواعي والكاتب في علاقاته مع الناس والمجتمع والأحداث والشأن العام يجب أن يؤسس على قاعدة "الفصل والوصل"؛ فيعرف متى يقترب من الناس ومتى يبتعد. متى ينغمس في الحياة وتناقضاتها ومفارقاتها وأحداثها ومشكلاتها، ومتى يحلق فوقها ليستعيد صفاءه النفسي والروحي والعقلي وينظر إلى الحياة نظرة طائر يرى عن بعد ما لا يراه الآخرون، ويكتب ما يُريد.

والجميل أن الأستاذ سعيد سالم قد اقترب لسنوات طويلة من الراحل العظيم الأديب نجيب محفوظ (1911-2006) بعد أن تعرف عليه في مجلسه الذي كان يعقده خلال إقامته الصيفية بالإسكندرية، وأصبح من خلال هذه الجلسات، ومن خلال تبادل الرسائل الشخصية مع الأستاذ نجيب محفوظ يملك ثروة من الذكريات الإنسانية والأدبية معه ضمنها ببراعة ومصداقية في كتابه الرائع "نجيب محفوظ الإنسان" الصادر عام 2011.  

وفي إحدى الجلسات الأخيرة التي جمعتني بالأستاذ سعيد سالم سألته بدهشة عن سر الابتسامة التي لم تكن تفارق وجه الأستاذ نجيب محفوظ، وسر بساطته وتواضعه المُذهلين، وسر سعة صدره وتعففه عن صغائر الحاقدين وأمراض المثقفين والمبدعين؟ 
فقال لي الأستاذ سعيد سالم بحسم شديد وبشكل تلقائي: "نجيب محفوظ كان شبعان ثقة في النفس".

وأظن اليوم أن هذه الثقة هي مفتاح شخصية نجيب محفوظ، وهي السر الكامن خلف منجزه الأدبي العظيم. ويقيني الشخصي أنها ثقة لم يشُبها غرور خفي أو نرجسية مرضية مثل التي تصيب الكثير من المبدعين، وأن منبعها أنه إنسان عرف نفسه متابعة للحكمة اليونانية القديمة، وإدراك في مرحلة مبكرة من حياته معنى وغاية وجوده ورسالته في الحياة؛ ولهذا تميز بقدرة عجيبة على الاكتفاء والاستغناء، ولم يسمح لأي ظروف خارجية أو علاقات مهنية وإنسانية بإعاقته عن انجاز مشروعه الأدبي، ولم يقبل تحت أي ظرف أن تتسرب موهبته وغايته عن مجراها الأصيل وتُهدر وتتبدد في دهاليز ومتاهات ومشكلات الحياة والناس.

رحم الله الأستاذ نجيب محفوظ الذي تحل علينا هذه الأيام الذكرى الثامنة عشرة لرحيله، والذي سنظل نتعلم من سيرته وحياته وخياراته وأعماله باستمرار ما يُثري معرفتنا وجودنا ويُنير دروبنا في الحياة، وبارك الله في حضور ودور عمنا السكندري الرائع الأستاذ سعيد سالم.

تابع مواقعنا