قراءة عاشرة في الدروس المستفادة
لم يعد هناك مجال للحديث حول الأسباب التي دفعت الاقتصاد المصري إلى هذا الوضع، فالكل تبارى في استعراض مسببات الأزمة الحالية وتأثيرها من محدودية النقد الأجنبي، مرورًا بالارتفاع التاريخي في معدلات التضخم، وصولا إلى التخفيضات المتتالية - خلال الأسبوع الماضي تحديدا - من قبل المؤسسات الدولية.
وبما أنه من أولى خطوات حل أي أزمة هي الاعتبار إلى الدورس المستفادة منها، فسوف أطرح مرة أخرى رؤيتي في ذلك، استكمالا لما طرحته سابقا في مقالات عدة عن السيناريوهات المطلوبة في طريق الإصلاح، إيمانا بأهمية استمرار الحديث والتوجيه نحو الحلول بدلا من الاستغراق في توصيف الأزمة وجلد الذات.
وبداية، فإن الدراسات التي تركز على المالية العامة تظهر أن الزيادات السريعة في قيمة الدين المستحق، كثيرا ما تسبق فترات الركود والأزمات الاقتصادية، وعليه فلا جدال أن سياسة الإنفاق العام التي تم اتباعها خلال الفترة الماضية، هي السبب الرئيس في ارتفاع الدين الخارجي وزيادة معدلات التضخم، وهما صلب أزمتنا.
كذلك لا جدال حول عدم قدرة الاقتصاد بظروفه الحالية على تحقيق التنمية المطلوبة بالشكل الذي يحقق العائد الدولاري اللازم لسداد فوائد الديون وأقساطها ولتغطية الطلب على العملة، ناهيك عن مشاكل الفنيات التمويلية الناجمة عن هذا المشهد والمعروفة بالـ maturity mismatch أو عدم تتطابق آجال الاستحقاق مع العائد.
الاقتصاد المصري
وفي رأيي، فحزمة الإصلاحات المطلوبة، يجب أن تكون قائمة على محورين رئيسيين متكاملين، أولهما تحقيق الانضباط المالي واتباع سياسة التقشف، خاصة وأن الدولة تعاني مما يعرف بالـ fiscal dominance أو هيمنة السياسة المالية على السياسة النقدية، مما يولد عجز مزدوج مزمن في الموازنة والميزان التجاري.
والمحور الثاني قائم على الإصلاح الهيكلي بتركيز الاهتمام على المؤشرات الاقتصادية المهمة وفي مقدمتها نسب التصدير، كآلية لاستهداف عوائد دولارية مستدامة.
وبالنسبة للمحور الأول، فالهيمنة المالية Fiscal Dominance تمثل حالة اقتصادية تحدث عندما تكون مستويات الدين والعجز في بلد ما مرتفعة بحيث تتوقف السياسة النقدية عن كونها أداة فعالة للسيطرة على التضخم، وهو بالضبط ما نعاني منه، فالدين الخارجي قد تعدي حاجز الـ165 مليار دولار، في حين ارتفع الدين المحلي ليصل إلى 6.86 تريليون جنيه (222.1 مليار دولار)، أما التضخم فتجاوز معدل الـ40%.
أضف إلى ذلك أن العلاقة عكسية بين الهيمنة المالية واستقلالية البنك المركزي، فكلما زادت درجة الهيمنة المالية، أشار ذلك إلى انخفاض استقلالية ودور البنك المركزي في مواجهة التضخم، وهو ما يؤدي بشكل مباشر إلى ارتفاع المستوى العام للأسعار، وأيضا انخفاض الاستثمارات الأجنبية والمحلية لما في ذلك من دلالات بأن البيئة الاستثمارية أصبحت غير مستقرة ومفتقدة لمعايير الآمان.
وبما أن السياسة المالية المصرية لا تتمتع بقدرة إنفاق بسبب ضعف المكون التشغيلي الاقتصادي ومحدودية الموارد، فإن أعباء البنك المركزي قد ازدادت بشكل يفوق قدرات آلياته المتعارف عليها.. ففي حين أن مهمته الأساسية هي مجابهة التضخم، إلا أن الظروف تجبره على الاستمرار في تخليص الحكومة من عبء الديون بالحرص على سعر فائدة منخفض أو زيادة المعروض النقدي، وهو ما يؤدي بالتبعية إلى زيادة نسبة التضخم.
أعلم أن وزارة المالية، دائما ما تتحدث عن فائض أولي في الموازنة كنوع من الانتصار أو النجاح في دورها، إلا أن الواقع يشير إلى أنها قد استنفذت قدرتها على جمع موارد أو خفض الإنفاق جراء الضغوط السياسية الهادفة للتوسع في المشروعات غير المدرة للربح.
وهذا الأمر بالتحديد هو ما صعّب الموقف، فالمسار التوسعي الذي جاء لإرضاء الأهداف السياسية الطامحة في تحقيق طفرات ملموسة، دفع الدولة إلى اتخاذ مسار شديد التطرف في السياسة المالية – تخصيص مبالغ باهظة في الميزانية للصرف على المشروعات-، أضف إلى ذلك الإخلال الفج بوحدة الموازنة والذي أعطى الفرصة لتداول شعارات مثل "المشروع الفلاني لم بكلف الموازنة شيء". فحقيقة الأمر لقد تشعبت التصرفات النقدية بشكل أفقدنا أبسط انواع الحوكمة.
كل ذلك أوجد فجوة عن السياسات النقدية –دور البنك المركزي في مواجهة التضخم-، وجعل من السياسة المالية هي قائدة المشهد، أما النقدية فأصبحت خاضعة لاحتياجاتها.
بكل بساطة، على ماكينة الصرف الحكومي انت تهدأ قليلا لكي يلتقط الوطن والمواطن انفاسهم.
أما فيما يخص المحور الثاني والمعني بالجانب الهيكلي، فنجد أن عدم القدرة على توليد العملة الأجنبية بالمعدل المتناسب مع الإنفاق، يرجع أساسا إلى انخفاض نسبة الصادرات إلى الناتج المحلي الإجمالي - مؤشر القدرة على التصدير الذي يقيس حجم الإنتاج المحلي المُصدر-.
فالأرقام الرسمية تشير إلى أن الصادرات تساهم بنحو 15% من الناتج المحلي الإجمالي، في حين أن دول أخرى في المنطقة تجاوز هذا الرقم المحدود بمراحل ومنها، المغرب الذي يحقق معدل 43% وجنوب أفريقيا بـ 33%، وحتى دولة تركيا التي تعاني أزمات اقتصادية حالية ومعدل تضخم مرتفع إلا أنها تحقق معدل 38%.
أي أن نسبة الصادرات هذه لم تزد بالمعدل المطلوب المتناسب مع حجم الإنفاق والجهد المبذول خلال الفترة الماضية، بسبب عدم توجيهه في الإطار الصحيح، بما جعلها غير قادرة على خدمة ميزان المدفوعات المعني بجميع المعاملات التجارية والمالية الدولية ومتكون من عناصر الحساب الجاري، والحساب المالي، وحساب رأس المال.
الإشكالية تكمن في أنه رغم عملية الإصلاح الاقتصادي التي تمت في 2016 والتخفيض المتتالي لقيمة العملة المحلية "التعويم"، بما يرتب بالطبع انخفاض قيمة المنتج المصري مقارنة بنظائره، إلا أن قيمة التصدير لم تزد كما يُفترض أن يحدث، وهو ما يشير إلى ضرورة مراجعة وتقويم وتوجيه الخطط الإنتاجية وإعلاء فلسفة البحث عن الفرص التصديرية.
بالطبع ما طرحته سابقا يمثل عناوين عريضة تستلزم العديد من الاستراتيجيات والتفاصيل التي تستهدف في النهاية ضبط السياسات الاقتصادية، والعمل على توليد عملة أجنبية وضبط ميزان المدفوعات وأيضا الميزان التجاري، بما يمثل حائط صد للاقتصاد المصري ضد الأزمات التي يبدو أن المستقبل لن يخلو منها.
فالأصول التي نحاول بيعها الآن سوف تنتهي يوما ما، ومبادرات المصريين في الخارج لن تظل ممتدة إلى ما نهاية، وسيصعب ادارة العملية الاقتصادية كمعادلة كيميائية نقلل الاستيراد فينخفض التصدير وتنخفض تحويلات المصريين في الخارج فنضطر لتحجيم استخدام البطاقات البنكية في الخارج مثلما حدث منذ ايام.
كل هذه الحلول تمثل خطوات وقتية لن تحقق المأمول للاقتصاد، فهي فقط تطيل فترة تحمل الأزمة، لكن لن تعفي من ضرورة العمل على حلول مستدامة تحقق للاقتصاد قوته وتجعله قادرا على احتمال الصدمات بدلا من فكرة "الترقيع" المتبعة حاليا.
كما أن المؤشرات الدولية تشير إلى أن توجه الفيدرالي الأمريكي نحو الإبقاء على أسعار الفائدة ثابتة في نطاق مرتفع، بما ينبه إلى عدم إمكانية عودة الأموال الساخنة. تلك التدفقات التي اشترت لنا وقت باهظ الثمن ابان ولاية محافظ المركزي السابق طارق عامر حيث خرجت تلك الأموال بفجاجة شديدة في مارس 2022 متبوعة بتخليه عن منصبه تاركا تركة ثقيلة.
ملخص القول.. إن هناك استحالة في استمرار المسار التوسعي الحالي تحت أي ظرف ووفقا لأي طموح، كما أن وضعنا يحتم البدء الفعلي في إجراءات الحل وضبط المشهد المليء بالتحديات الجسيمة التي يتصدرها تَعيُّن سداد قرابة 30 مليار دولار خلال عام 2024 في حين أن موارد الدولة الدولارية المعلومة سلفا لا تمثل نصف هذا الرقم، وعليه فلا بد من إدارة عملية اقتصادية كاملة بكل ما تحمله الكلمة من معنى.