السبت 23 نوفمبر 2024
More forecasts: Wetter 4 wochen
رئيس التحرير
محمود المملوك
أخبار
حوادث
رياضة
فن
سياسة
اقتصاد
محافظات

السجائر و«علقة 6 ابتدائي»

محمود علي
مقالات
محمود علي
الثلاثاء 18/يوليو/2023 - 06:06 م

لا حديث يعلو فوق الحديث عن السجائر هذه الأيام وارتفاع أسعارها المبالغ فيه، وبصرف النظر عن الأضرار الصحية للتدخين وقبلها النهي الشرعي عنه، إلا أنها سلعة لا غنى عنها لكثير من البشر، وسواء كنت سيادتك تدخن السجائر أو لا تدخنها، فبالتأكيد لك فرد في أسرتك أو زميل أو صديق متأثر بهذه الأزمة، وبالتأكيد هذا القريب أو الزميل أو الصديق حينما يتعكر مزاجه بسبب قلة السجائر، فإن هذه «العكننة» حتما سينالك منها جانب.

في الصف السادس الابتدائي كانت لي تجربة قصيرة مع السجائر، فذات مرة رأيت بطلا لأحد الأفلام السينمائية يسحب نفسا عميقا من سيجارته وهو متأثرا بمشكلة عاطفية يمر بها، وفي فيلم آخر رأيت البطلة نفسها تسحب أنفسة متقطعة من سيجارة طويلة، وبطلة أخرى تدخن الشيشة، وقلت لنفسي ما الذي يمنعني أن أكون مثل هؤلاء، وبالفعل خضت التجربة التي أحمد الله أنها لم تدم طويلا، كنت أدخن السيجارة وأنا أكره طعمها، لكني كنت أقف أمام المرآة مزهوا بنفسي منتفخ الصدر مضيق عيني وما بين حاجبي، ثم أرسل الدخان من أنفي في حلقات، وفي اعتقادي أنني والسيجارة سنكون أصدقاء طول العمر، وأن الأمر مجرد شهور أو أعوام قصيرة في السر،ثم أخبر أهلي بكل شجاعة أنني أصبحت مدخنا.

وذات يوم من أيام الشتاء الجميلة، انتهزت فرصة وجود أمي في السوق وأبي في الشغل، وانشغلت في تدخين تشكيلة "سبارس" معتبرة، و"السبارس" هي أعقاب السجائر الصغيرة، وغالبا ما يكون فيها "نفسين" أو ثلاثة قبل الفلتر، وهو حل كنت ألجأ إليه حينما أتعذر في الحصول على سجائر سليمة، وبينما أنا منهمك في تدخين تلك "السبارس" إذ بصوت أمي من الخارج: "تعالى يا ابني شيل عني السبت"، وقبل أن أشيل السبت تخلصت من أعقاب السجائر بسرعة خلف الثلاجة وهو أقرب مكان وصلت إليه قبل أن تدخل أمي إلى المنزل.

وفي أثناء شيل السبت شمت أمي رائحة السجائر الكريهة تنبعث مني، ثم شمت فمي عن قرب وسألتني: "أنت بتشرب سجاير؟"، وأجبت بسرعة الصاروخ: "لا"، ومع مجموعة من الأقلام السريعة والمتلاحقة على وجهي انهرت واعترفت لها بكل شيء، وطلبت منها أن لا تخبر أبي مع وعد مني بأنني لن أعود إلى السجائر أبدا، وبالفعل التزمت هي بوعدها والتزمت أنا الآخر بوعدي معها ولم أدخن السجائر من يومها، ومر يومان وبالصدفة اكتشفت أمي أعقاب السجائر المخبأة خلف الثلاجة وتوعدتني بأن تخبر أبي، ولم تشفع توسلاتي عندها ولا الأيمان المغلظة بأنني التزمت معها بوعدي ولم أدخن من يومها، وأن السجائر التي عثرت عليها هي نفسها التي نسيتها منذ أن ضبطتني عند عودتها من السوق.

 

كانت هذه هي آخر علقة كبرى يلقنها لي أبي وأقلها إيلاما جسديا، لكن كانت أكثرها إيلاما نفسيا، لأنه هزني من الأعماق وأقنعني أن الرجولة والبطولة ليست بتدخين السجائر، الرجولة بتحقيق الذات والنجاح والاعتماد على النفس واحترام الكبير والتواضع، ثم سألني عن أي فائدة للتدخين فلم أجد، وخرجت من تلك التجربة بأنه لا فائدة واحدة ترجى من التدخين، وأن المدخنين هم أشخاص يستحقون العطف والشفقة، لا أن أعتبرهم أبطالا أو قدوة كما كنت أعتقد.

قلت أنني لم أحب السيجارة ولكنني أحببت فيها شيئا تأكدت تماما أنه خطأ، لكن هناك أشخاصا حالتهم بالتأكيد ليست مثل حالتي ومزاجهم مختلف عن مزاجي، ولو خيرتهم بين السيجارة ورغيف الخبز  لاختاروا السيجارة، بل إن بعضهم يقصر في مصاريف منزله ولا ينفق على أسرته إلا بشق الأنفس، وربما لا تدخل اللحمة بيته غير كل شهر أو شهرين، لكن علبة السجائر فلوسها حاضرة وجاهزة في أي وقت!

في هذا الوقت الذي نجد فيه ارتفاع أسعار السجائر يقابله انخفاض واضح في أسعار الكثير من السلع الغذائية المهمة والأعلاف ومواد البناء، وهنا نلاحظ أن الحكومة تتبع فقه الأولويات في توفير الدولار لسد احتياجات المواطنين أولا من السلع الأكثر الأهمية ثم السلع الأقل، فمن غير المنطقي أن نوفر الدولار لاستيراد التبغ وهو المكون الرئيسي للسجائر حتى "يتكيف" سيادة البيه المدخن و"يظبط مزاجه" ونترك السلع الأهم ثمنها يتضاعف وتحدث أزمة.

في النهاية من حق أي مدخن أن يجد السجائر متوافرة كشأن أي سلعة وبالسعر المناسب لها، وأتوقع أن هذه الأزمة لن تطول، لكن من وجهة نظري هي فرصة عظيمة جدا لغير المدخنين أن يستنشقوا هواء نقيا بعض الشيء، وأن لا يرغموا في المواصلات أو الأماكن العامة على استنشاق النيكوتين والقطران، وفرصة أعظم لمن يريد الإقلاع عن التدخين خاصة من أصحاب الدخول المنخفضة وتوفير هذه الأموال لنفقات البيت الأساسية، فالمولى -عز وجل- قال: "ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة"، ورسوله الكريم أخبرنا: "كفى بالمرء إثما أن يضيع من يعول".

 

 

تابع مواقعنا