أولاد الأبالسة
من القصص المُلهمة والقاسية في نفس الوقت واللي حصلت في أوائل التسعينات وتم إعادة نشرها مؤخرًا وكانت سببًا في استغراب ناس كتير من تفاصيلها هو اللي حصل أثناء الحرب الأهلية في لبنان في الفترة ما بين 1975 وحتى 1990 لما كان فيه راجل عجوز متسول بيلف في شوارع بيروت وبقى من علامات المدينة بشكله المميز!.. راجل عجوز ما تقدرش تعرف عمره بسبب كمية الشعر اللي مغطية وشه وراسه وكإنه ماحلقش من 100 سنة!.. كمان الريحة اللي خارجة منه بتأكد لكل اللي يشوفه إنه بقاله سنين طويلة ماستحماش، وده غير طبعًا إيديه المشققة ورجليه الحافية، والبالطو الطويل المرقع اللي بيلبسه ليل نهار في الشتاء أو الصيف.. طبيعة أهل لبنان وبيروت بالذات إنهم طيبين يعني في عز أزمة الحرب اللي هما فيها كان أي بيت يمر من قدامه المتسول ده يطلعوله أكل أو يدوله يشرب بمنتهى الود.. بس الفكرة إن الراجل ده نفسه كان فيه عادة غريبة!.. كانت نفسه عزيزة ومتعفف لأبعد درجة.. بمعنى إن لو حد إداله 10 أرغفة عيش يرفضهم وياخد منهم رغيف واحد بس!.. ولو حد إداله فلوس يرفض على طول.. ولو حد إداله علبة سجاير يرفض وياخد منه سيجارة واحدة بس!.. يا عم ما تاخد هو أنت لاقي!.. لأ.. أنا هاخد اللي محتاجه في اللحظة دي وبس.. الحقيقة إن تصرفه ده خلق حالة أكبر من التعاطف معاه واللي هو شوف الراجل الطيب الغلبان اللي مش طماع وبياخد على قد اللي محتاجه بس، وطبعًا ممكن تتخيل بسهولة إن ده زود محبة الناس له خصوصًا مع ابتسامته الحلوة اللي ماكانتش بتفارق وشه، ورغم إنه مكنش بينطق حرف ما هو أخرس بقى لكن ده ما أثرش خالص في التواصل اللطيف اللي كان بينه وبين الناس حتى لو بالابتسامة أو بهزة الراس.. شوية بشوية وسنة ورا التانية بقى الراجل الأخرس جزء من شوارع بيروت.. زادت حدة الحرب الأهلية في البلد الجميلة البسيطة، وبدأت تيجي أخبار كمان عن الاجتياح الإسرائيلي اللي متوقع يحصل بين لحظة والتانية.. هو إحنا ناقصين!.. حصل الاجتياح الإسرائيلي فعلًا وحاوط بيروت من كذا اتجاه ببطء وكان فيه مقاومة شرسة وباسلة من كل الأهالي وده خلّى الأمور تاخد شهور من الشد والجذب والكر والفر!.. بس في وسط المعمعة دي كان المتسول الأخرس بيمارس عادته باللف والمشي في شوارع بيروت ولا كإن فيه حرب دايرة حواليه.. ناس كتير من الأهالي حاولوا يشدوه عشان يدخل بيوتهم ويحتمي معاهم من القصف والضرب اللي شغال ليل نهار ده بس هو كان بيرفض وبيصمم يكمل مشي ولف.. يفضل يلف يلف ولما يتعب ينام على ناصية أي شارع أو أي رصيف!.. الناس بدأت تزهق وبدأت تركز في نفسها أصل هنعمل له إيه يعني خلاص هو حر وقرروا يسيبوا الأخرس لمصيره بقى.. بعدها دخل الجيش الإسرائيلي لـ بيروت وأثناء سيرهم في واحد من الشوارع الرئيسية لقوا قدامهم المتسول الأخرس ماشي بخطوات عشوائية في اتجاههم!.. وقفت المجموعة المسلحة من الجيش واللي اتحرك منهم بس عربية مصفحة خاصة بالقوات الخاصة وتوجهت في اتجاه الأخرس!.. وقف.. العربية وقفت.. المسافة بين العربية والأخرس بقت شوية أمتار بسيطة.. نزل من العربية عدد من الجنود شايلين أسلحتهم وموجهينها ناحيته ومستعدين يضربوا في أى لحظة.. المشهد بيتابعه الأهالي اللبنانيين من ورا شبابيك البيوت اللي بتبص على الشارع وهما في قمة الحزن على مصير الراجل الغلبان اللي خلاص غالبًا هيموت بين لحظة والتانية.. فجأة نزل من العربية 3 ظباط.. مقدم واتنين نقيب.. أمروا الجنود إنهم ينزلوا فوهات أسلحتهم وقربوا في اتجاه الأخرس، وبمجرد ما بقى بين الـ 3 ظباط وبينه متر واحد بس رفعوا إيديهم بالتحية العسكرية له وقال المقدم: (باسم جيش الدفاع الإسرائيلي أحييكم سيدي الكولونيل العقيد وأشكركم على تفانيكم في خدمة إسرائيل، فلولاكم ما دخلنا بيروت).. الأخرس ابتسم الابتسامة المعهودة بتاعته ورد التحية العسكرية وقال: (لقد تأخرتم قليلًا).. قالها وركب العربية المصفحة معاهم واتحركت العربية وسط ذهول كل اللي بيتابعوا المشهد من الأهالي اللي بعضهم كان بيفهم اللغة العبرية وقدروا يفسروا الكلام اللي سمعوه بين الظباط وبين الأخرس.. يعني الراجل اللي عاش وسطنا 15 سنة كاملين وكنا فاكرينه متسول وأخرس وغلبان طلع جاسوس!.. ومش أي جاسوس ده عقيد في جيش الاحتلال!.. وهو اللي كان بينقل ليهم تفاصيل الشوارع وأماكن الأسلحة والبيوت اللي بيستخبى فيها الأبطال والدخلات اللي ينفع يقتحموا بيها بيروت بسهولة!.. وإحنا اللي كنا مديينه الأمان وبنتعامل قدامه عادي جدًا!.. الصدمة اللي حصلت للأهالي كانت لا تقل عن صدمتهم من الاجتياح اللي حصل وده عمل أزمة ثقة كبيرة عندهم بعد كده استمرت لفترة حتى في تعاملاتهم وحياتهم الشخصية.. صحيح إن تفاصيل القصة استخبت مع الزمن واللي فضل بس وجع الشهداء اللي استشهدوا وهما بيدافعوا عن بلدهم بس من فترة للتانية كانت القصة بتظهر من جديد عشان تفكر اللبنانيين اللي نسيوا وإدوا الأمان إن الأمان المطلق مش هو الخيار الصح.
إحنا مش في الجنة ولا عايشين في المدينة الفاضلة بالتالي خليك مستعد إنك وارد تقابل أبالسة في صورة بشر.. الأمان المطلق غباء مطلق لو لم يقترن بأفعال متتالية تؤكد نقاء الشخص اللي بتتعامل معاه.. المظاهر خداعة وياما ناس كلامهم عسل وقلوبهم سوداء ونواياهم خربانة.. لما بتشك إن فيه حاجة غريبة غالبًا بيبقى فيه حاجة تستحق الاستغراب فعلًا وبتبقى إشارة على طبق من دهب إن فيه غلط.. اللي مش عايز منك غير مصلحته، واللي بيقرب منك بس عشان يشوف نقطة ضعفك عن قرب ويضربك فيها، واللي محبته ليك وهمية ومجرد مقدمة لأذيتك؛ كل دول بدايتهم معاك لازم تكون مثالية وإلا كنت هتكشف حقيقتهم من أول لحظة!.. الحذر مطلوب، والثقة مينفعش تتوزع ببلاش على اللي يسوى واللي مايسواش.