فرضت علينا الحياة ولن نفرضها على أحد
في المقال السابق "غريزة أمومة أم طاقة حب.. ما جنيت على أحد" طرحت فكرة أن الأمومة قد لا تكون غريزة وإنما هي طاقة من الحب يختلف مقدارها من شخص لآخر، وبهذا المقال استكمل رؤيتي لما فتحت مدخلاً له بالمقال السابق وهو ما يسمى بـ"الفلسفة اللا إنجابية".
وتلك الفلسفة ملخصها هو وجود عدد لا بأس به "وفي ازدياد" ممن يؤيدون فكرة "اللا إنجابية" وهي تعني الحياة بدون إنجاب أطفال أو حياة بأطفال محتضنين "تم إنجابهم من أفراد آخرين وتركهم بهذا العالم دون اهتمام ورعاية لائقة".
كثير من اللا إنجابيين لديهم العديد من الأسباب التي تجعلهم غير راغبين في إضافة المزيد من الأرواح لهذا العالم، ربما تختلف الأسباب من فرد لآخر، ولكنها جميعاً تصب في إطار الرحمة والحب الشديد للأطفال ومدى علم هؤلاء اللا إنجابيين بعظم وضخامة مسؤولية إنجاب وتربية أطفال بهذا العالم، وهو على النقيض تماماً مما يظنه الكثير من الإنجابيين المتعجبين من قدرة نساء ورجال على رفض هبة وجود أطفال بحياتهم، بجانب الاتهامات والظنون التي تشير إلى أن اللا إنجابية ما هي إلا "موضة" جديدة لمجرد لفت الانتباه والإحساس بالاختلاف والتميز أو هي نتيجة لعقد نفسية بمراحل الطفولة والنشأة.
ولكن بمزيد من البحث سنجد أن الفلسفة اللا إنجابية هي قديمة قدم الحضارة اليونانية بل وربما قبلها أيضاً، فلقد تحدث عنها سوفوكليس وتيغونيس، واعتنقها أيضًا أبو العلاء المعري صاحب المقولة الشهيرة (هذا جناه أبي عليَ.. وما جنيت على أحد) في إشارة للحياة والوجود، ثم تحدث عنها بعض الفلاسفة في عصور تالية مثل آرثر شوبنهاور الفيلسوف الألماني، وإميل سيوران "مؤلف كتاب مثالب الولادة"، ومؤخراً ديفيد بيناتار، أستاذ ورئيس قسم الفلسفة بجامعة كيب تاون ومؤلف كتاب "الأفضل أن لا تكون: (الضرر في القدوم للوجود)، وقد يتفاجأ البعض أيضًا لمعرفة أن الكوميديان الرائع عبد السلام النابلسي كان من أشهر اللا إنجابيين بمصر وصرح بهذا علناً على الهواء بلقاء تليفزيوني من السهل إيجاده على اليوتيوب..
ولكن دعنا من كل هؤلاء لأن متخذي قرار اللا إنجابية لم ينبني قرارهم على قراءات لأي من هؤلاء الفلاسفة، وأيضاً لم يسمع بهم أغلب اللا إنجابيين، فلماذا إذن قرر الكثير من الشباب والشابات أن لا رغبة لديهم/ن بأن يحظوا بأطفال؟
لا إنجابية ظرفية
بعض ممن يؤيدون اللا إنجابية يكون تأييدهم لها من زاوية ظرفية أو شرطية وهو ما يمكن إيضاحه بأمثلة كمقولات على غرار: لن أنجب طالما أنا بهذا البلد، لن أنجب حتى أصل لمكانة مرموقة بالعمل، لن أنجب إلا إذا تأكدت من قدرتي على رعاية أطفالي أفضل رعاية ممكنة، لن أنجب إلا عندما يصل رصيدي البنكي لكذا، لن أنجب إلا إذا تزوجت شخص ذو جنسية أخرى، إلخ.
وتلك الفئة قد يسهل إقناعها بتغيير رأيها ببعض الضمانات، وقد يغيروا رأيهن/م أيضا بعد مرور فترة من الزمن سواء تهيأت الظروف لشروطهم أو لم تتواءم معها.
لا إنجابية حقيقية
وهي تكون من أفراد أكثر إصراراً وتصميماً على عدم الإنجاب، وقادرين تماماً على مواجهة المجتمع بآرائهم والدفاع عنها بأدلة وإحصائيات وإجابات منطقية دون شروط أو متغيرات اجتماعية قد تكون سبباً في كونهم لا إنجابيين، بل قد يصل الأمر أيضاً لرفضهم الزواج أو الارتباط بطرف أخر يخالفهم هذا الإصرار والتصميم على عدم الإنجاب حتى لا يقع المحظور ويجد نفسه أباً أو تجد نفسها أماً دون رغبة وتحت الإجبار.
وفي حالة تغير بعض الظروف المحيطة بهؤلاء الأفراد سواء من تحسن مادي أو ظهور مشاعر أمومية أو رغبة بالأبوة بداخلهم نجدهم يسارعون باحتضان وتبني أطفال متواجدين بالفعل بهذا العالم وفي حاجة لمن يكفلهم نفسياً وعاطفياً قبل أن يكفلهم مادياً، ونادراً ما يخل هؤلاء الأشخاص بقرار اللا إنجابية، ويكون هذا الإخلال نتيجة لظروف قهرية وخارجة عن الإرادة مثل أن يحدث حمل ولا تتمكن المرأة من الإجهاض نتيجة لوجودها بدولة تجرمها كمواطنة في حالة رغبتها التحكم التام بحياتها كأي شخص طبيعي، وهو ما يحدث بمصر وأغلب الدول الإسلامية والأجنبية من وجود قانون صارم يمنع الإجهاض، وفي تلك الحالة لا نجدهم على الإطلاق في سعي لجلب طفل ثاني ليدعم أخته أو أخيه في الحياة كما يفعل كثير من المنجبين.
معوقات ورد فعل الأهل والمجتمع
وكما نوهت بالفقرة السابقة إلى أن أحد المعوقات التي تقف حائلاً دون تنفيذ قرار اللا إنجابية هو سيطرة الدولة على أجساد النساء وحرمانهن من قدرتهن على التحكم بأجسادهن وتقرير ما إذا رغبن في الإنجاب من عدمه، فقد نصت المادة 315 على أن: "تعاقب بالسجن مدة لا تقل عن ستة أشهر ولا تزيد على ثلاث سنوات كل امرأة اجهضت نفسها عمدا بأي وسيلة كانت أو مكنت غيرها من ذلك برضاها، وتكون العقوبة السجن مدة لا تقل عن عشرة أيام ولا تزيد على ثلاثة أشهر إذا اجهضت المرأة نفسها أو مكنت غيرها من ذلك اتقاء للعار".
أي أن من تلجأ للإجهاض اتقاء للعار والفضيحة والقتل على يد ذويها ستقوم الدولة بسجنها عشرة أيام على الأقل! وهو ما قد يسبب لها فضيحة مركبة ومضاعفة كامرأة أو فتاة دخلت بعلاقة غير شرعية "أو حتى تم اغتصابها" من وجهة نظر المجتمع وأسرتها ومجتمعها وأجهضت نفسها وأيضاً لها ملف إجرامي بجريمة عاقب عليها القانون وهو بالتالي ما يؤكد قتلها على يد ذويها.
كما ورد بالمادة 316 من ذات القانون يعاقب بالسجن مدة لا تقل عن ستة أشهر ولا تزيد علي ثلاث سنوات كل من أقدم بأي وسيلة كانت علي اجهاض امرأة برضاها وتكون العقوبة مدة لا تقل عن ثلاث سنوات ولا تزيد علي خمس سنوات إذا كان الجاني أحد مزاولي المهن الطبية".
أي أن الطبيب المكلف الذي أقسم على حماية أرواح البشر سيتم عقابه إذا أسهم في حماية حياة امرأة اختارت إجهاض ما تحمله أحشاءها برضاها التام، وسيرضى عنه القانون والمجتمع إذا ما تركها تنزف حتى الموت او تصاب بمضاعفات جسدية نتيجة لعدم دعمه الطبي لها..
بجانب رد فعل الأهل والمجتمع في حالة علمهم برغبة المرأة في الإجهاض أو حتى رغبتها واتخاذها لقرار عدم الإنجاب والذي يتراوح ما بين النقد والهجوم أو التعجب والتسفيه من هذا القرار، وقد يصل الأمر إلى المقاطعة من الأهل بجانب الابتزاز العاطفي الشديد من المجتمع المحيط وخاصة من الأبوين سواء أبوي الزوجة أو الزوج.
ردود إنجابية تبدو مقنعة ولكنها مؤلمة
ويكون مبرر الأسرة والمجتمع دائمًا هو: عدم البقاء وحيداً عند الشيخوخة وإيجاد الونس، إيجاد من تتكئ عليه عند الكبر والوهن، استمرار الاسم بالحياة، وجود من يبادلك العاطفة والحب بشكل مضمون، قد ترغبين أو ترغب في يوم ما لتفريغ طاقة الحب أو غريزة الأمومة أو حياة دور الأب وعندها تجدين أو تجد نفسك بلا قدرة على الإنجاب ويكون قد فاتكم قطار الإنجاب، ضمان الإلهاء والتسلية ووجود ما يهتم به الأم والأب لعدم تسرب الملل والمشاكل لحياة الزوجين، رغبة نهائية ووحيدة للجد والجدة بأن يروا أحفادهم/ن، وغيرها من الأسباب والمبررات التي قد تجبر الشباب والشابات على الإنجاب حتى وإن كانوا غير مستعدين نفسياً ومادياً.
ردود لا إنجابية واقعية
وهي ردود قد لا تكون مقنعة للإنجابيين أو للأهل الراغبين برؤية الأحفاد؛ لأنها ردود عقلانية بعيدة كل البعد عن العاطفة والخيال التي يتحدث بها الشخص الإنجابي أو المؤيد للإنجاب كمثال فكرة أن يكون الأطفال هم وسيلة للإلهاء والتسلية وتقليل المشاكل الزوجية وهو مبرر قمة في اللاعقلانية حيث يمكننا أن نلحظ بسهولة أن المشاكل الزوجية تكثر في حالة وجود أطفال نتيجة لزيادة الضغوط النفسية والمادية على كل من الزوجين.
بينما برؤية منطقية أخرى نجد أن عدم التوافق أو وجود ملل أو خلافات بين أي زوجين يكون أكثر سهولة في الحل والإنهاء بشتى الطرق بدون تبعات مؤلمة بعيداً عن وجود طرف ثالث قمة في الأهمية والحساسية والعرضة للتألم والدمار النفسي كالأطفال.
أما بالنسبة لمبرر وجود أطفال كمتكئ عند الشيخوخة والوهن فهو أقل ما يمكن أن يقال عنه هو أنه نوع من أسوأ أنواع استغلال الإنسان للإنسان، وهو ما يرفضه تماماً اللا إنجابي لأن من يفكر بتلك الطريقة هو لا يستغل فقط إنسان آخر إجباراً للحصول على الونس والرعاية بل هو شخص يستغل أقرب وأحب البشر إليه، وأيضاً في أوقات كثيرة نجد ان الفرد والمجتمع يبتزوا الأبناء عاطفياً ويخبروه بأنه تم إحضاره لتلك الحياة بكل مساوئها وقسوتها فقط لهذا السبب "رعايته عند الكبر والوهن"!
بينما نجد في الدول الإنسانية كأوروبا والصين واليابان أن هناك مراكز لرعاية كبار السن يعمل بها أفراد متخصصين في الرعاية ويملكوا من طاقة الحب والصبر والعلم ما يؤهلهم لتقديم الخدمة والرعاية النفسية والطبية لكبار السن سواء بمقابل مادي "دور رعاية خاصة" أو مجاناً "حكومية أو مؤسسات غير هادفة للربح" وكلاهما تحت رعاية ورقابة صارمة من الدولة.
أما بالنسبة لمن ينجبون نزولاً على رغبة الوالدين وكلمات مثل "نفسي أشيل ولادك قبل ما أموت" فهو محاولة أخرى من محاولات قولبة الأبناء في قالب التماثل مع المجتمع أو الحب الأعمى نتيجة الخوف غير المبرر من أشياء غير معلومة أو حتى معلومة للشخص اللا إنجابي الذي يتخذ هذا القرار وهو على دراية تامة بما يعنيه من مسؤولية ووحدة ورفض ونبذ وتعجب من أفراد المجتمع.
أما بالنسبة لنقطة وجود من يحمل أسمك أو طاقة الحب المسماة بغريزة الأمومة أو حب الأطفال والرغبة في تقديم الحب والحنان والرعاية لهم فيمكن بكل بساطة تقديمها لمن هم موجودين بالفعل في هذا العالم ومفتقدين للحب والاهتمام والرعاية بدلاً من تركهم للطرق ولدور رعاية الأطفال التي تقدم لهم من الذل والإهانة أكثر مما تقدم لهم من رعاية في كثير من الأحيان.
وأيضاً النقطة السابقة مرتبطة بنقطة هامة أخرى منتشرة بالدول ذات الأغلبية السكانية مسلمة الديانة وهي الضغوط الدينية أو بمعنى أدق "الضغوط المغلفة بأطر دينية" والتي تستند إلى أن الطفل يأتي برزقه وأن "تناكحوا تناسلوا فأني مباه بكم الأمم بوم الدين"، وهي ما يمكن دحضها بسهولة عن طريق: " أنا وكافل اليتيم كهاتين وأشار بأصبعيه السبابة والوسطى" أو "أطلبوا العلم ولو في الصين" أو "علموا أولادكم السباحة والرماية وركوب الخيل" وهي أشياء لا يمكن بأي حال من الأحوال تنفيذها إلا في وجود أمان مادي ونفسي واجتماعي تام.. وهو كما نعرف جميعاً أمر غير متوافر ولا مضمون إطلاقاً.
رد آخر يتبناه اللا إنجابيون متعلق بمقولة "أن الحياة ليست بهذا السوء لإنجاب وإحضار أطفال بها" وهو ما يسهل الرد عليه تماماً الآن مع وجود فيروس كوفيد، فأنت أيها الإنجابي لن تستطيع مهما حاولت حماية هذا الطفل في هذا العالم المجنون المتجه رأساً للدمار، فالكرة الأرضية تلفظنا بكل قوتها، فهناك نقص مياه واندثار لموارد الحياة ونقص مصادر الطاقة وحروب مستمرة لا تنتهي نتيجة للزيادة السكانية البشعة على مستوى العالم، بجانب زيادة التقلبات الجوية حدة نتيجة لثقب الأوزون والتلوث الجوي وهما أيضا نتيجة للزيادة السكانية غير العادية التي لا يتحملها الكوكب، أمراض نقص مناعة متعددة وسرطانات مختلفة تأكل روح الإنسان قبل جسده وأوبئة متنوعة، آلام نفسية وجسدية غير محتملة يمر بها الأطفال لأسباب متعددة ومختلفة مهما كان موقع نشأتهم على هذا الكوكب نتيجة لكثرة الأمراض النفسية المسببة للتنمر والاضطهاد والعنف بمختلف صوره وأشكاله، بجانب زيادة المغتصبين والمتحرشين الذين يجدوا في الأطفال أسهل وأضعف ضحية يمكن العثور عليها ويستوي عندهم كون الضحية طفلة أنثى أو طفل ذكر، بجانب سرعة وتعقد الحياة، وغيرها من مسببات الألم والخوف والرعب من وجود كائن هش ضعيف بحاجة لحماية دائمة لسنوات طويلة تجبر أسرته عامة وأمه خاصة على التفرغ التام لهذا الكائن وتحمل مسؤولية صحته الجسدية والنفسية والتألم معه وعليه ربما بصورة تفوق تألمه هو ذاته ككائن حي نتيجة للشعور بالذنب كون أن هذا الألم تسبب فيه وجوده بالحياة من الأساس لرغبة أنانية من المُنجب في أن يستمتع وهمًا بما يسمى غريزة أمومة بالنسبة للمرأة أو رغبة الخلود واستمرار اسم العائلة أو توريث المكتنزات أو وجود "عزوة" بالنسبة للرجل.