الأحد 24 نوفمبر 2024
More forecasts: Wetter 4 wochen
رئيس التحرير
محمود المملوك
أخبار
حوادث
رياضة
فن
سياسة
اقتصاد
محافظات

"صفحة من حياة طالب مشاغب" قصة قصيرة لأميمة منير جادو

د. أميمة منير جادو
ثقافة
د. أميمة منير جادو
الأربعاء 21/أبريل/2021 - 10:04 م

واقفا كان أمام المحقق المسئول عن حادثة شغبه الأخيرة "كسر زجاج نافذة الفصل وكسر مقعد الأستاذ" عن إصرار وعمد .. ألقى بهذا في ذاك! معترفاً كان .. ولم يكذب .. لم يكن بحاجة لشهادة الشهود من الزملاء الذين كانوا رغم كل شيء يحبونه ومن الصعب أن يعترفون عليه ليس خوفاً منه ولكن حُباً فيه.

صامتاً كان في خجل بادٍ وانكسار شديد، تطول سرحاته رغم صخب وضوضاء تداخل أصوات المدرسين والتلاميذ في حجرة المحقق ، كل يدلى بدلوه في أي اتجاه ودونما سؤال موجه إلى أحدهم . تتداخل الأصوات .. تتداخل الآراء ما بين مؤيد ومعارض ومحتج في ثورة ومنادٍ بعقاب رادع ليس آخره الفصل من المدرسة نهائياً وحرمانه من التعليم لأن مثله – من وجهة نظرهم – لا يستحق التعليم .

المدهش أن (عمروا) – وكان هذا اسمه – لا تبدو عليه أية إمارات للعنف أو البلطجة أو الشغب ... نحيف متوسط الطول ، هادئ القسمات ، مريح الوجه يوحى بالطيبة لكن حزن عينيه البادي يستدر الشفقة عليه رغماً عنك .

لا تشعر معه رغم ذلك بأنه يمثل هذا الدور – كما ادعى عليه بعض أساتذته المتعصبين – إنما تأخذك نظرات اللوم في عينيه إلى أغوار سحيقة وكأنك تتوه في جب عميق ملئ بمثيرات شتى أكثر من طبقات ظلامه الدامس ، أو كأنك في رحلة داخل سرداب من حكايات ألف ليلة وليلة .

سأله المحقق بقسوة: ما اسمك ؟ 

رد بهدوء واثق: عمرو بن العاص .

استفزت إجابته المحقق من أول لحظة  : نعم وحياة ...

 ماتت كلمة ( أمك ) على لسان المحقق قبل أن ينطقها وتذرع بصبر مفتعل ، ثم قال : رُدَّ بأدب !

وبذات الهدوء قال : وهل خرجتُ على الأدب ؟

عاود السؤال وهو يتنهد : ما اسمك؟

وعاود التلميذ الرد بذات التنهيدة " عمرو بن العاص.

ألقى المحقق بالقلم بعصبية فوق أوراق تناثرت أمامه، وقال  يتنهد : اللهم طولك يا روح .. ثم عنفه بصوت غاضب جهوري: ما أسمك ؟

رد عمرو بلا مبالاة  : عمرو بن العاص ، نطق اسمه وكأنه يلقى به على صفحات التاريخ وليس على مسامع الحاضرين وكأنه واثق أن التاريخ سيدونه في صفحة خالدة من صفحاته العادلة ..

رد مدرس  : ألم أقل لك يا حضرة المحترم، أنه مشاغب ويستحق الرفت ؟

صمت المحقق عاقداً يديه أمام صدره فوق المكتب محملقا في وجه عمرو وكأنه عراف قديم يستلهم الغيب ويستقرئ نفسه في محاولة لسبر أغوارها .

بينما استغرق عمرو في سرحة بعيدة، ويخيل إليك وأنت تراه قد ألقى ببصره عبر النافذة المكسورة التي أمامه وكأنه ذهب لعالم آخر، ولا تدرى كم من المسافات تفصله عن عالمه الآن ، ولا كم من الأزمان..

كان عمرو يجتر أسئلة أخرى مكبوتة في صدره حين كان يعيش مع أبيه قبل أن يطلق أمه ...

هذه الأسئلة التي لم يستطع أبداً أن يسألها لأبيه لكنه كان يسمع أمه أحيانا تنوه بها خفية فى طيات أحاديثها الخائفة المرتجفة من قسوته عليها وعلى ابنها ولا مبالاته بهما ..

وتخيل أنه يستطيع أن يسأل :

  • أبى لماذا  لا تصلى ؟
  • أبى لماذا لا تصوم ؟
  • أبى لماذا  تشرب الخمر؟
  • أبى لماذا  تلعب الميسر ؟
  • أبى لماذا  تغازل النساء المحصنات ؟
  • أبى لماذا  تسترق السمع للجيران ؟
  • أبى لماذا لا تصل رحمك ؟
  • أبى لماذا  تشهد الزور ؟
  • أبى لماذا  تكذب ؟
  • أبى لماذا  لم تعاشر أمي بالمعروف وحين سرحتها لم تسرحها بإحسان ؟
  • أبى لماذا  تخون الوعود ولا تفي بالعهود ؟
  • أبى .. لماذا .. لماذا .. لماذا  ... عشرات من الأسئلة تتلاحق

ويطرح عمر في ذاته أسئلة جديدة على مدرس فصله الأستاذ عبد الله : 

  • لماذا تعاملنا بقسوة ؟
  • لماذا تضربنا لسبب وبدون سبب ؟
  • لماذا تسب أهالينا ؟
  • لماذا تسفه أفكارنا وتقتل أحلامنا وطموحاتنا ؟
  • لماذا تقتل الرأي فينا ؟
  • لماذا تسلبنا حريتنا وكرامتنا ؟
  • لماذا تشرب السجائر وتؤذينا ؟
  • لماذا لا تشجعنا على العلم ؟ لماذا تنافق مديرنا ؟
  • لماذا لم تكن من محبينا ؟
  • لماذا عندما فقدنا ذوينا لم تكن أنت بعض ذوينا ؟

ويقولون: قف للمعلم ووفه التبجيلا 

                                كاد المعلم أن يكون رسولا !

  • لماذا لم تكن أستاذاً جليلاً ...
  • لماذا لم تكن قدوة فينا ؟
  • لماذا أنت – أيضا – اسمك عبد الله ؟

قطع المحقق سيول الصرخات المكتومة عبر الأسئلة الثائرة في نفس عمرو وكأنه يسأله لآخر مرة وقد نفد صبره: ما اسمك ؟

انطلق عمرو كمدفع رشاش لا يستطيع أحد أن يوقف طلقاته حتى سقط على الأرض مغشياً عليه من فرط الإعياء والثورة وهو يردد :

عمرو بن العاص .. .عمرو بن العاص ... عمرو بن العاص ...

عمرو بن العا ... عمرو بن الـ ... عمرو بن ...

عمرو بـ ... عمرو...  عمر ... عمر ... ع ... ع ... ع ...                                        

* من مجموعة قصصية تربوية "خناجر الحنين إلى الغربة – دار النخبة للطبع والنشر"    

تابع مواقعنا