محلج دومينز الأثري.. من هنا غزى القطن المصري “طويل التيلة” أسواق العالم (صور وفيديو)

ساعات شاقة، اعتادت فاطمة محمد، السيدة الثلاثينية، وعشرات العاملين والعاملات على خطوط الإنتاج اليدوية، قضاءها يوميًا داخل محلج القطن الذي تعمل به منذ سنوات طويلة، حفظت خلالها، عن ظهر قلب، مراحل العمل وأتقنت دورها بكفاءة عالية.
من مدينة سخا بمحافظة كفر الشيخ المطلة على البحر المتوسط، والواقعة أقصى شمال مصر في دلتا النيل، وبالتحديد من محلج قطن سخا، يُصدر القطن المصري طويل التيلة إلى معظم دول العالم، بعد مروره بالعديد من العمليات الصعبة والمرهقة التي تقوم بها، فاطمة وزملائها، تحت إشراف عدد من الباحثين بمعهد بحوث القطن التابع لمركز البحوث الزراعية في مصر.
داخل بناء معماري أثري على شكل قصر ملكي، يجسد المحلج اليدوي الأثر والتاريخ ممزوجًا برائحة ولون القطن المصري الذي كان وقت إنشاء المحلج عصب الاقتصاد القومي المصري والمحصول الاستراتيجي الزراعي الأول في تلك الفترة من تاريخ مصر، مقارنة بتراجع غير مسبوق في مساحته المزروعة خلال الـ5 سنوات الأخيرة.
والمحلج يعتمد على العمل اليدوي للعمال في عمليات النقل والتخزين والتنقية، لكن دخلت العديد من التطورات عليه في آلات للتنقية والنقل ووحدات ضبط الرطوبة والتخزين لتحول هذه المحالج إلى حديثة.
رحلة طويلة للقطن المصري، يجسدها محلج قطن سخا الأثري الذي يحتفظ حتى الآن بخواص القطن طويل التيلة وفائق الطول من إنشائه عام 1913
ويوجد طريقتان للحلج، الأولى المنشارية وهي التي يتم فيها استخدام أقراص منشارية مثبتة على محور حديد لفصل الشعر عن البذرة، ويستخدم في حلج 95% من أقطان العالم، بينما الطريقة الثانية هي الحليج الأسطواني أو المكارثي وهو أفضل نوع لحلج الأقطان طويلة التيلة وفائقة الطول هو الحليج على الدواليب الإسطوانية لفصل الشعر عن البذرة.
وواجه القطن المصري على مدار القرن الماضي الكثير من التحديات وفق دراسة نشرها المركز القومي للبحوث المصري في نشرته الـ 43 لعام 2019، كشفت عن تراجع المساحة المنزرعة بالقطن المصري والمحصول لكل وحدة مساحةلسببين رئيسيين: التأخر لمدة شهر بعد 30 مارس – تاريخ الزراعة الموصى به- حتى يتسنى لهم الحصول على محصول شتوي كامل كالقمح مثلًا قبل زراعة القطن.
وشددت العديد من تقارير “القاهرة 24″، وفق الدراسة، على الآثار السلبية للزراعة المتأخرة على مردود المحصول، موضحة أن مربي القطن دافعوا عن ضرورة إعادة النظر في مفهوم الزراعة المزدوجة للقطن المصري، ذلك المحصول الصيفي بمحاصيل الشتاء (تعني زراعة محصولين أو أكثر في نفس قطعة الأرض في نفس مواسم الزراعةكما أسهم تغير اقتصاديات إنتاج القطن المصري بسبب ارتفاع تكاليف المدخلات وانخفاض صافي دخل المخرجات في انخفاض المساحات المنزرعة.
لكن محلج سخا ما زال يحافظ على أقطان الإكثار المصرية ونقاوتها وهي التى تستخدم بذورها فى الزراعة خلال الموسم التالي، وفق أحمد إسماعيل الشامي، مدير المحلج، موضحا أن المحلج هو الأول على مستوى الجمهورية لإنتاج النواة والنوية والمربي والأساسي وهي الدرجات الأولى من التقاوي النقية وراثيا، ويعتبر المفرخة الأساسية لإنتاج أصناف معهد بحوث القطن والمعروفة عالميا بسمعتها العالية من حيث عوامل الجودة والطول والمتانة والنعومة.
وأصناف الإكثار هي الأصناف التي تستخلص بذورها للزراعة خلال الموسم التالي. وتقوم وزارة الزراعة باستلام محصول الإكثار وحلجه فى محالجها،، أي نزع البذرة، ثم تقوم بتوريد الزهر للشركات للحفاظ على درجة نقاوة البذرة، على أن يتم الاحتفاظ بالبذور المستخرجة للموسم التالى.
وأوضح الشامي لـ “القاهرة 24″، أن القطن الموجود في المحلج ينقسم إلى قطن فائق الطول وقطن طويل ومخصص للنوعين أرصفة معينة لحفظهما، لافتا إلى أن عمليات الحلج جميعها يدوية، تبدأ من عملية فرفرة الزهر ثم دواليب الحليج وفصل الشعر عن البذور ثم كبسه في بالات ووضعه لحين فرفرته مرة أخرى وكبسه “بخاري” وتصديره للخارج.
والقطن الزهر هو القطن في صورته الأولية من الأرض الزراعية بعد توريدها من المزارعين، وفرفرة الزهر هي عبارة عملية فك القطن الزهر، ودواليب الحليج تعني الآلة التي تستخدم في فصل الشعر عن البذرة، بينما المكبس هو الآلة التي يتم فيها كبس قطن الشعر لتقليل الحيز وإخراجه في صورة باله قطن شعر يسهل نقله أو تخزينه، والكبس البخاري يقلل حجم البالة بكثافة عالية.
وأشار إلى أن الشركات تصدر القطن المصري من محلج سخا المعروف عالميا بأن إكثاراته الأولية تتميز بالصفات التكنولوجية العالية المعترف بها عالميا “زيرو تلوث” مثل النعومة والمتانة والطول، وأنه يُغزل على أكثر من 320 ياردة لدرجة أنه لا يُرى بالعين المجردة ، مشددا على عدم تغير الصفات الوراثية لصنف لقطن المصري جيزة 45 منذ 80 عاما، وهو ما جعله معروفا بصفاته وجودته، ففي متجر ملابس في هوليوود، تغزل تاجر قطنيات في القطن المصري كونه أفضل قطن بالعالم ويعرض له طقم سرير يبلغ سعره 2000 دولار أمريكي.
وعن تاريخ المحلج، يقول “الشامي” وهو باحث أيضا في معهد بحوث القطن التابع لمركز البحوث الزراعية بوزارة الزراعة، إن محلج سخا أقدم محلج على مستوى الجمهورية وأنشئ عام 1913 أيام الاحتلال الإنجليزي (1882-1918)، يدعى دومينز في الوقت الذي كان القطن المصري يمثل عصب الصناعة والاقتصاد المصري.
ووفق الشامي فإن المحلج هو النواة الأولى لإنتاج بذور الأساس للقطن وما يخرج منه يتم زراعته كإكثارات أولية بالمزارع، موضحا أن المحلج انضم في عام 2005 للآثار الإسلامية ويعتبر أثرا معماريا وإسلاميا من الدرجة الأولى لا يجوز فيه استخدام أي تكنولوجيا أو تطوير، ويتم الاعتماد فيه على الأيدي العاملة منذ خطوة البداية حيث دخول القطن الزهر إلى النهاية حيث خروج القطن الشعر.
ويعاني العاملين بالمحالج في مصر من أزمة كبيرة بسبب فيروس كورونا المستجد وتوقف العمل أو الاستغناء عن بعضهم، وفق ما أكد النائب عبدالفتاح أحمد سراج الدين، عضو مجلس النواب المصري، باعتبار أن المحالج خفضت طاقتها العمالية بصورة كبيرة واستغنت عن آخرين، مشيرا إلى عدم وجود مصدر رزق لهؤلاء العاملين سوى الحلج.
ويوضح سراج الدين لـ “القاهرة 24″، ضرورة توفير آلية بطريقة أو بأخرى لدعم هؤلاء العمالة ماديا من القطاع الذين يعملون به نفسه، لتعويضهم عن عدم العمل، عبر فرض 5 جنيهات زيادة من المحلج على كل قنطار كمثال.
ووفق مسئولو المحلج، فإنهم يعملون من خلال المحلج الحفاظ على القطن المصري وخواصه الوراثية المميزة عالميا، مع الحفاظ على المحلج كأثر معماري، في ظل خطة الدولة لعودة القطن إلى عرشه.
وليد السعدني، رئيس الجمعية العامة لمنتجي القطن المصري، قال إن مصر احتلفت بمرور 200 عام على زراعة القطن منذ عام، موضحا أن زراعته دخلت مصر في فترة حكم الخديوي محمد علي(1805 – 1848)، كشجرة زينة جمالية، ثم أصبح محصولا اقتصاديا وعمود الاقتصاد المصري بعد إنشاء المحالج والمغازل وتطوير زراعته وتحويله إلى منتج نهائي للتصدير.
وأوضح “السعدني” لـ “القاهرة 24″، أن زراعة القطن المصري بدأت تتراجع في تسعينيات القرن الماضي بعد صدور قانون التجارة رقم 210 لسنة 1994 وإلغاء نظام الدورات الزراعية الإجبارية، الذي حول تسويق القطن من تعاوني عن طريق الدولة في الزراعة والإشراف والدعم والتسويق، إلى نظام العرض والطلب.
من هنا بدأت عمليات خلط أصناف القطن من قبل المستفيدين وفق “السعدني”، مشيرا إلى أن ذلك أساء إلى القطن المصري وتدنت إنتاجيته وجودته وأصبح عبئًا على الدولة والمزارعين ليصل إلى أدنى مساحة منزرعة وإنتاجية ومساهمة في الاقتصاد المصري بداية من عام 2010.
ويضيف أن الدولة تنبهت إلى هذه الأزمة وأصدرت القانون رقم 4 لسنة 2015، والذي يحظر التعامل في أقطان الإكثار إلا من خلال وزارة الزراعة، ومن هذا التاريخ بدأت الأقطان المصرية تستعيد نقاوتها وفعاليتها مع تحسن مواصفاته وارتفاع متوسط الإنتاجية وعودته للسوق العالمي وإقبال الشركات الأجنبية على شراءه.
وسجلت مساحات القطن أدنى مستوياتها في موسم 2016 بزراعة 136 ألف فدان فقط مقارنة بما يقرب من مليون ونصف المليون فدان في خمسينيات القرن الماضي وفق “السعدني”، الذي أوضح أنه من هذا العام بدأت الدولة في وضع خطة بتصنيع القطن وتشكيل لجنة وزارية للنهوض بالمحصول لتصل المساحة المنزرعة به في الموسم الأخير إلى 237 ألف فدان، لكنه طالب بضرورة وجود استراتيجية كبيرة لمدة لا تقل عن 10 سنوات تعتمد على الحكومة وليس الأفراد لتطوير هذا المحصول.
التحديات لم ترتبط فقط بعمليات التسويق والتصنيع والقوانين، لكن أيضا شملت تحديات التغيرات في البيئة وإنتاجية الأصناف ومقاومته وجودتها، وهو ما دفع إلى إنشاء معهد بحوث القطن الحالي عام 1919، والذي عمل على استنباط أصناف جديدة من الأقطان، وفق هشام مسعد، مدير المعهد، والذى يؤكد لـ “القاهرة 24″، أن المعهد أنتج على امتداد تاريخه ما يقرب من الـ 100 صنف، يتفوق حديثها على قديمها فى خواص الجودة والإنتاج ويتهافت عليها الغزالون ويسعى وراءها المستوردون، وفق قوله.
وأوضح أنه من أشهر هذه الأصناف الصنف جيزة 45 والذى عرف بأنه أفخر واجود الأقطان العالمية والمسجل فى موسوعة الأرقام القياسية (جينس) مرتين، الأولى لإنه أقدم الأصناف التجارية المزروعة عالمياً حيث زرع تجارياً عام 1951 واستمر حتى الأن، والثانية لأنه قد أمكن غزله على نمرة عد (334) فى ألمانيا وهذا ما لم يحققه صنف أخر، ويعني أن الرطل البالغ وزنه 454 جرام من القطن الشعر الناتج عن الصنف (جيزة 45) أنتج خيط طوله يساوي 334 ياردة، وهو خيط دقيق جدا لم يصل له أي صنف آخر في العالم.
وأوضح “مسعد”، أن المعهد نجح أيضا في كسر الإرتباط السالب ما بين صفات الجودة والإنتاجية، فمن المعروف أن الأصناف المتميزة فى صفات الجودة تكون أقل محصولاً وأستطاع مربوا المعهد إنتاج أصناف عالية الجودة والإنتاجية، مستدلا على ذلك بالإقبال الشديد على أصناف القطن المصرى التي أُنتخبت في العشر سنوات الأخيرة والتي تميزت بصفات جودة متفردة وإنتاجية عالية.
لكن على الرغم من تصريحات المسئولين حول وجود خطة لزيادة المساحات المنزرعة بالقطن ودعم المزارعين إلا أن تقرير لوزارة الزراعة الأمريكية صدر في يناير 2019، توقع انخفاض أكبر في المساحات المنزرعة بالقطن بسبب انخفاض أسعار المحصول بسبب زيادة العرض عن الطلب مع استنباط بذور القطن المحسنة في موسم عام 2019، ما تسبب وفق التقرير في انخفاض الأسعار إلى 2050 جنيهًا مصريًا (117 دولارًا) لكل قنطار (567 دولارًا أمريكيًا لكل بالة) في مارس 2019، مقارنة بـ 2700 جنيها مصريا في موسم 2017 (168 دولارًا).
وأوضح التقرير أن 3% فقط من إجمالي الإنتاج العالمي للقطن هو قطن طويل التيلة، موضحًا أن مصر والولايات المتحدة وإسرائيل وتركمانستان هي الدول التي تنتج القطن طويل التيلة.
وعلى الرغم من تميز القطن المصري طويل التيلة عالميا، إلا أن الحكومة المصرية بدأت في مشروع بحثي في شرق العوينات بالقاهرة 24ين لعمل تجارب على القطن قصير التيلة ومدى مناسبته للظروف المناخية في مصر وفق تقرير وزارة الزراعة الأمريكية، الذي أوضح أن اختيار شرق العوينات لإجراء التجارب بسبب عزلتها عن المناطق لزراعية في مصر ومن أجل منع خلط البذور قصيرة التيلة مع طويل التيلة وفائقة الطول.
واتفق التقرير مع رئيس جمعية منتجي القطن، حول سيطرة الحكومة المصرية خلال الثلاث سنوات الأخيرة على الإنتاج والتوزيع لبذور القطن في محاولة لاستعادة نقاء البذور وجودة القطن بعد أن تدهورت السمعة والجودة بشكل كبير، مؤكدة أن خطة الحكومة بدأت تؤتي ثمارها في تحسن ملحوظ في جودة القطن وزيادة الطلب عليه عالميا.
وكما تأثر لقطن المصري على مدار السنوات الماضية بسبب عوامل مختلفة، يعاني العاملون في المحالج بفيروس كورونا المستجد “كوفيد-19″، وفق مدير معهد بحوث القطن الدكتور هشام مسعد، مؤكدا أنه تم خفض عدد العمالة وتطبيق الإجراءات الاحترازية التي أعلنت عنها الحكومة لمواجهة الفيروس.
وأشار إلى تخزين كميات من القطن بطريقة آمنة تحميه من الإصابة بالحشرات والفطريات، بعد عدم القدرة على حلجه بسبب الفيروس.
لكن الفترة الطبيعية لتوقف عمل المحالج وفق “مسعد” تزامنت مع ظهور فيروس كورونا، موضحا أنه عادة ما ينتهي حليج أقطان الإكثار في نهاية ديسمبر أو بداية شهر يناير من كل عام، لكنه أكد أن العمل مستمر في الأراضي الزراعية رغم الفيروس.