"من يحرر يقرر"2: عصمة الثورة - متلازمة ما بعد التحرر في سوريا
يتكرر المشهد عبر التاريخ بثبات لافت؛ في عام 1789 هتف الثوار الفرنسيون "الحرية أو الموت"، لينتهي بهم المطاف في ظل حكم الامبراطور نابليون.. وفي 1917 رفع البلاشفة شعار "كل السلطة للسوفييتات"، لكن روسيا تحولت إلى نظام ستاليني دكتاتوري أزهق أرواح الملايين.. واليوم في سوريا يتردد شعار "من يحرر يقرر"!
هل يعرف مرددو هذا الشعار أنه يقدم الوعد الأكثر إغراءً في التاريخ؛ بتحويل دماء التضحية إلى صكوك لسلطة الأمر الواقع، وساحات المعارك إلى غرف لصناعة القرار؟ فالشعارات التي تولد في غمرة الثورات تختصر في كلمات قليلة فلسفة كاملة في الحكم، وخاصة عندما يمتزج التحرير بقداسة الغطاء الديني، لتولد سلطة تدّعي "عصمة الثورة".
المفارقة في المشهد السوري، أن "التحرير" في هذا السياق يصبح فخًا مزدوجًا؛ فخ للمُحرِر الذي يسقط في وهم امتلاك الشرعية والحقيقة المطلقة، وفخ للمُحرَر الذي يجد نفسه منتقلًا من قفص إلى قفص.. وكأننا أمام معادلة ميكافيللية جديدة: من يملك القوة يملك الحق في تعريف الحرية.
معادلات في تاريخ الثورات
القوة + التحرير = شرعية (معادلة روبسبير الثورة الفرنسية). التحرير - المشاركة = استبداد جديد (معادلة لينين). الثورة + الأيديولوجيا = نظام شمولي (معادلة ماو في الصين). في كل مرة، تتكرر المعادلة نفسها بمتغيرات مختلفة.
من السيف إلى الكرسي
تتحول رموز التحرير تدريجيًا في مسار تدريجي لا يخطئه البصر؛ فالبندقية تصبح قلما بيروقراطيا، خيمة الثورة تتحول إلى قصر للحكم، الكوفية تستبدل بربطة العنق، وهتاف الحرية يصبح مرسومًا إداريًا. وفي خضم هذا التحول تبدأ عملية تجميل شاملة للاستبداد الجديد؛ يتم حقن القمع بالفيلر الديني، وشد وجه الديكتاتورية بخيوط القداسة، وتكبير شفاه الوعود. حيث يُتحوّل التدين إلى مصرف يودع فيه الثائر شرعيته ويسحب منه قراراته مع فوائد سماوية. وكلها تندرج في إطار "هندسة الشرعية" حيث تشكل الثورة الأساس، والتضحيات الجدران، والقداسة السقف. إنه "الزمن السياسي المعكوس" عندما يعيد المحرر تشكيل الزمن، حيث يتحرك المستقبل نحو الماضي، وتصبح الثورة نقطة النهاية بدل البداية.
مصيدة التاريخ: اللعنة المتجددة
تدور الثورات في فلك لعنتها الأزلية، بالأمس كان نابليون يحول ثورة الحرية الفرنسية إلى إمبراطورية استبداد، واليوم تحاول هيئة تحرير الشام أن تحول راية التحرير إلى عصا للحكم. تتبدل الجغرافيا ويتغير التاريخ وتبقى المصيدة هي ذاتها؛ الصعود من قاع المعاناة إلى قمة السلطة، وهكذا يستمر المشهد التراجيدي في سوريا، مؤكدة مقولة لورانس دوريل "كل الثورات تبدأ شاعرة وتنتهي ديكتاتورة".