القاهرة.. قاهرة الغزاة وصانعة التاريخ
يحكي التاريخ دائمًا أن مَن أسقط بغداد وأسقط دمشق سيسقط على أبواب القاهرة، هذه العبارة ليست مجرد مقولة تقليدية تناقلتها الأجيال، بل هي حقيقة رسختها تجارب الشعوب وأحداث التاريخ، التي أكدت أن القاهرة ليست مجرد مدينة عادية تقع في قلب العالم العربي والإسلامي، بل هي حصن منيع وقلعة صامدة تقف في وجه كل عدو ومعتدٍ مهما بلغت قوته أو عظم جبروته.
هذه المدينة التي لا تنحني للأعاصير، ظلت على مرِّ العصور رمزًا للصمود والتحدي، ومركزًا للحضارة والتاريخ، تحملت أعباء الدفاع عن الأمة في أوقات الشدة، وكانت دائمًا الحصن الذي يحتمي به العرب والمسلمون.
عندما ننظر إلى التاريخ الإسلامي والعربي، نجد أن القاهرة لم تكن مجرد عاصمة لدولة أو مركز للحكم، بل كانت القلب النابض الذي يضخ الحياة في شرايين الأمة، فهي لم تعرف السقوط يومًا، ولم تسمح لأعدائها باختراق أسوارها، بل كانت دائمًا تستعد للمواجهة، تتحدى الغزاة، وتردهم على أعقابهم خائبين، في الوقت الذي سقطت فيه بغداد على يد التتار عام 1258 ميلادية، وتدمرت حضارتها العريقة، كانت القاهرة تعد العدة لصد نفس العدو، تقودها في ذلك إرادة صلبة وشعب لا يعرف اليأس، وقادة يدركون قيمة هذه المدينة التي لا تقهر.
كان عهد الظاهر بيبرس وقبله قطز من أعظم العهود التي تجلت فيها قوة القاهرة ومكانتها، إذ استطاعا في معركة عين جالوت الشهيرة عام 1260 أن يغيرا مجرى التاريخ، ويضعا حدًا لزحف التتار الذي كان يهدد الحضارة الإسلامية بأكملها. لم تكن تلك المعركة مجرد انتصار عسكري، بل كانت شهادة على أن القاهرة هي القلعة الأخيرة، وإذا سقطت سقطت الأمة، ولكنها لم تسقط بل انتصرت، ورفعت راية الإسلام عاليًا، ولقنت العالم درسًا في الصمود والمقاومة.
إن موقع القاهرة الجغرافي الاستراتيجي لم يكن هو السبب الوحيد وراء صمودها، فرغم أنها تقع في قلب العالم العربي، وتحيطها السهول والجبال، ويتدفق فيها نهر النيل الذي يمنحها الحياة والاستقرار، إلا أن قوتها الحقيقية تكمن في شعبها الذي يمتلك إرادة فولاذية، ويؤمن دائمًا أن المحن يمكن أن تتحول إلى منح، وأن الأزمات ليست نهاية الطريق بل بداية جديدة لمراحل أخرى من التحدي والانتصار.
في العصور الحديثة، حاول نابليون بونابرت، قائد الحملة الفرنسية، السيطرة على القاهرة، ولكنه واجه ثورة شعبية عارمة، حيث خرج المصريون بكل فئاتهم لمقاومة الاحتلال، وأثبتوا مرة أخرى أن القاهرة لا تنحني، ورغم أن الاحتلال البريطاني تمكن لاحقًا من فرض سيطرته على مصر، فإن روح المقاومة لم تخمد، وظل الشعب المصري يناضل حتى تمكن من طرد الاحتلال واستعادة استقلاله.
اليوم، ورغم ما تعانيه بعض العواصم والمدن العربية من صراعات واضطرابات، تبقى القاهرة شامخة، تواجه التحديات بصبر وقوة، وتستمر في دورها كعاصمة ثقافية وحضارية وسياسية للعالم العربي. ففي الوقت الذي شهدت فيه بغداد ودمشق ويلات الحروب والدمار، ظلت القاهرة رمزًا للاستقرار، ومنارة للأمل، ومصدر إلهام لكل من يبحث عن دروس الصمود والبقاء.
القاهرة ليست مجرد مكان يعيش فيه الناس، بل هي روح نابضة بالحياة، تختزل التاريخ في شوارعها وأزقتها، وتحكي قصص الحضارة في معالمها، من الأهرامات التي تروي عظمة الفراعنة، إلى الأزهر الشريف الذي يمثل مركز الفكر الإسلامي، ومن قلعة صلاح الدين إلى مساجد المماليك التي تعكس عبقرية العمارة الإسلامية. كل زاوية في القاهرة تحمل قصة، وكل شارع فيها شاهد على صفحة من صفحات التاريخ.
إن من يتأمل تاريخ القاهرة يدرك أنها ليست مدينة يمكن أن تسقط، فهي فكرة أبدية، وروح متجددة، وكيان يرفض الهزيمة. حتى في أصعب الأوقات وأحلك الظروف، كانت القاهرة تقف صامدة، تنفض عنها غبار الأزمات، وتنهض من جديد، لتعلن للعالم أن النيل الذي يجري في عروقها يمنحها الحياة والقوة، وأن شعبها الذي صنع حضارة دامت لآلاف السنين قادر دائمًا على صنع المستقبل.
القاهرة ليست فقط حامية مصر، بل هي حامية الأمة بأكملها، هي المدينة التي تلجأ إليها القلوب في أوقات الشدة، وتجد فيها الأمل عندما يضيق الأفق. وإذا كان التاريخ قد شهد سقوط بغداد ودمشق في أيدي الغزاة، فإنه أيضًا شهد صمود القاهرة وبقاءها، لتصبح ليس فقط عاصمة لمصر، بل رمزًا للأمة بأسرها. إن هذه المدينة التي تبدأ الحكايات على أبوابها، لا تعرف النهاية، بل تبقى دائمًا وأبدًا واقفة، شاهدة على عظمة الإرادة الإنسانية وقوة الصمود.