الفراغ النفسي والتنمر الإلكتروني: أزمة العصر الرقمي
في خضم التحولات الكبرى التي يشهدها عالمنا المعاصر، برزت ظاهرة مقلقة تستحق التأمل العميق والدراسة المتأنية. إنها ظاهرة التنمر الإلكتروني وتحول بعض مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي إلى أشخاص يقضون جل وقتهم في ممارسة العنف اللفظي وإطلاق الأحكام المتسرعة على الآخرين.
هذه الظاهرة ليست مجرد سلوك عابر، بل هي انعكاس عميق لأزمة نفسية واجتماعية مركبة تستحق التحليل والفهم.
يمكننا أن نلمس عمق هذه الأزمة في المشهد اليومي لمنصات التواصل الاجتماعي، حيث نرى أشخاصًا يحولون هذه المنصات إلى ساحات للمعارك الكلامية وإصدار الأحكام القاطعة على الآخرين.
يتجلى ذلك في توزيع صكوك الإيمان والكفر، واتهامات الخيانة والعمالة، وتصنيف الناس إلى وطنيين وخونة دون أي أساس موضوعي أو دليل ملموس.
هذا السلوك، في جوهره، يعكس أزمة عميقة في شخصية هؤلاء الأفراد وحياتهم الواقعية.
إن المتأمل في هذه الظاهرة يجد أنها ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالفشل في الحياة العملية والشخصية.
فالشخص الذي يحقق نجاحات حقيقية في حياته، ويمتلك إنجازات ملموسة، نادرًا ما يجد الوقت أو الرغبة في قضاء ساعات طويلة في التنمر على الآخرين أو إصدار الأحكام عليهم.
إنه انعكاس للفراغ النفسي والعاطفي الذي يعاني منه هؤلاء الأشخاص، ومحاولة يائسة لتعويض هذا الفراغ من خلال ممارسة السلطة الوهمية على الآخرين في العالم الافتراضي.
الفراغ النفسي الذي يدفع إلى هذا السلوك له جذور عميقة في التركيبة النفسية للشخص. فالشعور بالنقص والدونية، وعدم القدرة على تحقيق النجاح في الحياة الواقعية، يدفع البعض إلى البحث عن تعويض وهمي في العالم الافتراضي.
يصبح التنمر على الآخرين وإصدار الأحكام عليهم وسيلة لإثبات الذات وتحقيق شعور زائف بالقوة والسيطرة.
إنه هروب من مواجهة الذات ومن تحديات الحياة الحقيقية.
هذه الظاهرة تترك آثارًا عميقة على النسيج المجتمعي. فهي تؤدي إلى تسميم البيئة الرقمية وتحويلها إلى فضاء مشحون بالكراهية والعداوة.
كما أنها تساهم في تقويض أسس الحوار البناء وتعميق الانقسامات المجتمعية. الأخطر من ذلك أنها تؤثر على الأجيال الجديدة التي تنشأ في هذه البيئة المسمومة، فتتشكل لديها قناعات مشوهة عن طبيعة العلاقات الإنسانية وأسس التواصل الاجتماعي.
المأساة الحقيقية تكمن في أن هؤلاء الأشخاص، في سعيهم المحموم للتنمر وإصدار الأحكام، يضيعون فرصًا ثمينة للتطور والنمو. فالوقت الذي يقضونه في هذه الممارسات السلبية كان يمكن استثماره في التعلم واكتساب المهارات وبناء علاقات إيجابية.
إنهم يدورون في حلقة مفرغة من الفشل والإحباط، يعوضون عنها بمزيد من السلوك السلبي، مما يؤدي بدوره إلى مزيد من الفشل والإحباط.
الخروج من هذه الدائرة المفرغة يتطلب وعيًا عميقًا بالمشكلة وإرادة حقيقية للتغيير.
يبدأ ذلك بمواجهة الذات ومصارحتها، والاعتراف بأن السلوك السلبي في العالم الافتراضي ليس سوى هروب من مواجهة تحديات الحياة الحقيقية.
ثم يأتي دور العمل الجاد على تطوير الذات وبناء المهارات الحقيقية التي تمكن الشخص من تحقيق النجاح في حياته العملية والشخصية.
إن مواقع التواصل الاجتماعي، في جوهرها، أداة محايدة يمكن استخدامها للبناء أو الهدم.
يمكن أن تكون منصة للتعلم وتبادل الخبرات وبناء العلاقات المثمرة، كما يمكن أن تتحول إلى ساحة للتنمر وإطلاق الأحكام وتدمير العلاقات. الفرق يكمن في الشخص الذي يستخدم هذه الأداة وفي نضجه النفسي وقدرته على توظيفها بشكل إيجابي.
المجتمع الرقمي الصحي يتطلب مستخدمين ناضجين، واثقين من أنفسهم، قادرين على تحقيق النجاح في حياتهم الواقعية، يستخدمون التكنولوجيا كأداة للتطور والنمو وليس كمنصة للتنفيس عن إحباطاتهم وفشلهم.
هذا التحول يبدأ من الداخل، من إدراك كل شخص لقيمته الحقيقية وقدرته على التغيير والتطور، ومن فهمه العميق لأن النجاح الحقيقي يكمن في البناء لا في الهدم، في التطور لا في التنمر، في العمل الجاد لا في إطلاق الأحكام الجزافية على الآخرين.