السبت 23 نوفمبر 2024
More forecasts: Wetter 4 wochen
رئيس التحرير
محمود المملوك
أخبار
حوادث
رياضة
فن
سياسة
اقتصاد
محافظات

عن إحلال الواردات وزمن حاتم زهران

الأحد 20/أكتوبر/2024 - 12:04 م

تابعت الطرح المميز والتحليل المتقن المعزز بالبيانات للإعلامي الكبير إبراهيم عيسى في حلقته عن الواردات، والذي لامس حالة تطفو على المشهد بين الحين والآخر تحاول -تلبيس- الظرف الاقتصادي لنمط استهلاك المواطنين، خاصة لما يتبعه من واردات ترتب إرهاق الموازنة العامة وتمثل ضغطا على العملة، كما يصوره البعض.

بالضبط.. كما جاء في فيلم زمن حاتم زهران، عندما تحدث الراحل صلاح السعدني عن حلم التصنيع الثقيل، وأن الدولة لا بد أن تلجأ إلى الصناعة التي تهدف إلى استبدال الواردات، بفكرة مضمونها رصد قائمة المنتجات المستوردة ثم يتم توجيه المصانع لإنتاج تلك التي ترتب عبء على العملة الأجنبية، وهو طرح قد يلقى قبولا لدى العامة إلا أنه يتطلب وقفة من الناحية الاقتصادية خاصة مع تجربته في دول عدة.

وتعرف هذه الفكرة الاقتصادية بـImport Substitution Industrialization (ISI)، وهي قائمة على تنمية الصناعات المحلية وتقليل الاعتماد على الواردات الأجنبية الصناعية، وقد تم اتباعها كسياسة هامة في القرن العشرين، خاصة من حكومات الدول النامية التي كانت تسعى لتقليل اعتمادها على الدول المتقدمة، بهدف أساسي هو الوصول إلى التصنيع وتقليل الاعتمادية على الغرب وتوفير العملة الصعبة وتحقيق الاكتفاء الذاتي.

والمثال الأبرز على فكرة تبني التصنيع لاستبدال الواردات، يكمن في تجربة دول أمريكا اللاتينية: المكسيك والأرجنتين والبرازيل وأورجواي وتشيلي وبيرو وبوليفيا والإكوادور، عندما اعتمدت تلك الدول على الاستثمار في الصناعات المحلية، عن طريق عدة طرق منها تأميم الصناعات وفرض التعريفات الجمركية أو نظم الكوتة لتقليل الواردات وزيادة الضرائب لدعم تنفيذ السياسة، بما تطلب في أحيان عدة دورا متزايدا للدولة، وهو ما رتب لاحقا الأزمة.

فدور الدولة المتزايد في هذه الدول قد عظّم من الخلل، كما تسببت حماية الصناعات المحلية في غياب المنافسة، وبالتالي عدم الإنتاجية، إلى أن أصبح الحفاظ على السياسة الخاصة بالتوطين مكلفا للغاية خاصة وأنه ساهم على المدى الطويل في ارتفاع الدين العام لأغلب هذه الدول، التي بحلول الثمانينيات، كانت قد تخلفت عن سداد ديونها السيادية فيما عرف تاريخيا بـ أزمة ديون أمريكا اللاتينية، وهو ما فرض اللجوء إلى تدخل المؤسسات الدولية لإنقاذها وإجراء إصلاحات هيكلية، كان أهمها التخلي عن سياسات التصنيع القائمة على استبدال الواردات!


يعني هذا أن التصنيع كفكرة هو أمر هام لكن يجب أن يقوم على الميزة التنافسية أو النسبية حتى، إنما اختزال الحلول في حصر الواردات والتوجيه نحو تصنيعها محليا، هو في تقديري أقرب إلى إعادة اختراع لمشوار لن يذهب بعيدا، خاصة وأن الإشكالية ليست فيما تريد الدول تصنيعه، قدر ما هي في قدرتها على التصنيع، وهذا أمر يجب أن يسبقه في البداية دراسة للقدرات ومواطن التميز لا في الاحتياج فقط.

وهو المضمون الذي فطن إليه أغلب رجالات الصناعة الكبار في مصر، لأنهم بالضرورة يعرفون ماذا يريدون ويركزون على صناعات لهم فيها ميزة تنافسية من جهة الخبرة المتراكمة أو التكلفة، لذا من الصعب قبول توجيههم نحو صناعات أخرى حتى وإن كان بدعم من الدولة أو بإملاء منها، لأن رأس المال يبحث تلقائيا عن المكسب ولن يفرق معه الطموح الصناعي للدولة، وإن كان من الممكن وضع سياسات من شأنها خلق حالة التقاطع بينهما.

وهذا لا يعني استحالة أو عدم جدوى نوايا تقليل فاتورة الاستيراد من خلال التصنيع المحلي، فلحل هذه الإشكالية تحديدا قد خلق الله الـ FDI -الاستثمار الأجنبي المباشر-، لاستقطاب الخبرات والأموال في مجالات تحتاجها الدول دون مغامرة لميزانياتها، لكن ذلك يتطلب في أصوله وجود ميزة تنافسية ودعم مناخ جاذب للاستثمار لا يعطله.

وبالعودة إلى محاولة تحميل زيادة الواردات لأزمة الاقتصاد المصري حاليا، فالأرقام لا تشير إلى ذلك على الإطلاق خاصة وأنه قد تراجعت واردات الدولة نسبة للناتج المحلي لتمثل 22.65% في الأعوام بين 2018 2022، مقارنة بـ 33.85% في ما بين 2005 و2009، لكن الفرق أن التدفقات القادمة من الصادرات مضافا إليها الاستثمار الأجنبي المباشر في الفترة ما قبل 2009، قد وفرت غطاءً كافيا لعجز الميزان التجاري، وبالتبعية لم يتولد أي شعور بضغط الواردات، وهو ما لم يحدث في الظرف الراهن.

هذا الظرف الذي لم يتوازن فيه الضغط على طلب العملة مع التدفقات الواردة من استغلال تلك العملة في بنود كالصادرات أو الاستثمار الأجنبي المباشر، وهو ما يخلق الشعور بالأزمة ويدفع نحو محاولة قياس الوضع من زاوية واحدة فقط، للتغطية على القصور في الزوايا الأخرى.

فالمشكلة في الحقيقة ليست في الواردات، إنما في تراجع أرقام الصادرات والاستثمار الأجنبي المباشر، على الرغم من تقلص الناتج المحلي الإجمالي بسبب انخفاض قيمة العملة، وهو ما كان يفترض معه تعزيز الصادرات بصورة كبيرة، لكن الإنتاج لم يستجب وبالتالي لم يكن التصدير على نفس درجة الآمال، وعليه فالبحث عن تقليل الواردات أو استبدالها ليس فقط حل أحادي الطرف بل هو طرحٌ قد أثبتت التجارب التاريخية عدم نجاحه.

ختاما.. التصنيع ليس مشروع إنشائي يمكن إنجازه بتوافر التمويل ومواد البناء، فالأمر أكثر تعقيدا منذ ذلك، وينطلق بالأساس من دراسة متأنية تتناول الإمكانيات والقدرة وتستحضر تعاون من مجتمع الأعمال وتأهيل بنية الاستثمار، وينتج عن تخطيط ورؤى طموحة لا يمكن أن تأتي ارتجالا أو خلال قراءة قائمة الواردات، على العكس من المشروع العقاري الذي لربما تستطيع الدولة إنجازه بمفردها.

تابع مواقعنا