سيناريوهات المستقبل 3.. إشكالية الأموال الساخنة
نوَّهت في المقال السابق من السلسلة "الدورات الاقتصادية"، عن ضرورة التعامل بحكمة مع الأموال الساخنة؛ لأنها سلاح ذو حدين، خاصة وأن أغلب تجاربنا الذاتية أظهرت حدُّه السلبي الذي يربك اقتصاد الدولة ويقحمه سريعا في دورات اقتصادية سيئة، رغم أنها أحيانا توفر فرص تمويلية عظيمة.
وبما أن الظرف الدولي مؤاتٍ لمزيد من تدفقات الأموال الساخنة بعد قرار الفيدرالي الأمريكي بتخفيض الفائدة، وجدت أن هناك حاجة ماسة للتنبيه بالضوابط المفترضة والمستقرة التي أفرزتها التجارب، لعل وعسى أن تَعِظْ.
ما هي الأموال الساخنة؟
وبداية، فـ"الأموال الساخنة" تُعرف اصطلاحًا على أنها استثمارات قصيرة الأجل، تسعى للربح السريع من الفوائد المرتفعة أو تحركات أسعار الصرف أو العوائد الاستثمارية، ثم تنسحب بمجرد تغير الأوضاع الاقتصادية أو المالية، مما يسبب تقلبات اقتصادية كبيرة.
وفي مصر، بدأت الأموال الساخنة تلعب دورًا بارزًا بعد تحرير سعر الصرف في نوفمبر 2016، إذ شهدت البلاد تدفقات كبيرة من هذه الاستثمارات بعد رفع أسعار الفائدة بشكل حاد، مما جعل السندات وأدوات الدين المصرية جذابة للمستثمرين الأجانب الباحثين عن العوائد المرتفعة، وهذا التدفق أدى إلى زيادة احتياطي النقد الأجنبي واستقرار الجنيه المصري مؤقتًا.
ولكن مع ارتفاع حجم الأموال الساخنة في السوق، كانت البلاد عرضة لتقلبات حادة بمجرد أن بدأت الظروف العالمية في التغير، ففي عام 2020، مع تفشي جائحة كوفيد-19 وتداعياتها الاقتصادية، بدأت الأموال الساخنة في الخروج من الأسواق الناشئة، بما في ذلك مصر بخروج 27 مليار دولار من الأموال الساخنة من البلاد في فترة وجيزة؛ مما سبب أزمة في سوق العملات الأجنبية.
وفي تقديري فإن الفترة بين 2016 و2022 تعتبر نموذجية لفهم تحديات التعامل مع الأموال الساخنة، ففي الوقت الذي استفادت فيه مصر من هذه التدفقات في بعض الأحيان، كانت تواجه مخاطر كبيرة عند خروجها.
وعليه، فإدارة الأموال الساخنة تتطلب قواعد احترازية للتعامل معها بطرق تقلل من المخاطر وتزيد من الفوائد او ما يعرف بالـ Capital Controls، وهو ما اهتمت له الدراسات الأكاديمية وأثبتته تجارب الدول.
دراسات بحثية عن الأموال الساخنة
أبرز هذه الدراسات، تلك التي أجراها Calvo and Reinhart، ونُشرت في مجلة الاقتصاد الأمريكي في عام 2000، إذ تؤكد أن الاقتصادات النامية التي تعتمد على الأموال الساخنة تعاني من تقلبات أكبر في معدلات النمو نتيجة هذه التدفقات غير المستقرة، ما يدفع الدول إلى اتخاذ إجراءات طارئة للتعامل مع تداعيات خروج هذه الأموال مثل رفع أسعار الفائدة أو التحكم في النقد الأجنبي.
كما تقدم دراسة لـ Eichengreen et al.، نُشرت في مجلة الاقتصاد السياسي عام 1998، نموذجًا حول كيفية استخدام القيود على حركة رأس المال كأداة لتقليل المخاطر المرتبطة بالأموال الساخنة، حيث توضح الدراسة إن الدول التي تفرض قيودًا على تدفقات رأس المال أو تلك التي تستخدم نظم أسعار صرف ثابتة تستطيع التحكم بشكل أفضل في الأموال الساخنة، ومع ذلك، تحذر الدراسة من أن القيود الصارمة قد تعوق تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر، ما يتطلب التوازن بين التحكم في التدفقات غير المستقرة وتشجيع الاستثمارات طويلة الأجل.
تجارب الدول مع الأموال الساخنة
أما من الناحية العملية، فهناك تجارب عدة يجب أن يتم الاعتبار إليها، خاصة لما توفره من دروس هامة حول كيفية إدارة مسألة الأموال الساخنة بشكل فعّال.
على سبيل المثال، البرازيل في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين قامت بفرض ضريبة على التدفقات المالية قصيرة الأجل، عرفت باسم "ضريبة طوبين" نسبة للاقتصادي الحائز على جائزة نوبل جيمس طوبين، وفي حين أن هذا الإجراء كان يستهدف تقليل تقلبات الأموال الساخنة في السوق البرازيلية، التي كانت تؤثر سلبًا على استقرار الاقتصاد، إلا أن هذه الضريبة ساعدت في تقليل التدفقات المضاربة، ولم تمنع تمامًا الأموال الساخنة من الدخول والخروج، ما أظهر أن فرض القيود المالية ليس حلًا كافيًا وحده.
أما كوريا الجنوبية فقد قدّمت نموذجًا آخر للتعامل الإيجابي مع الأموال الساخنة بعد الأزمة المالية الآسيوية في أواخر التسعينيات، عندنا استثمرت الحكومة في تعزيز احتياطاتها من النقد الأجنبي واتخذت سياسات مالية تهدف إلى تنويع مصادر التمويل، بعيدًا عن التدفقات قصيرة الأجل، كما قامت بتطبيق أنظمة مراقبة دقيقة لتدفقات رأس المال، وهو ما جنبها تبعات الأزمة المالية العالمية في 2008.
أما الهند، فكانت أكثر حذرًا في تعاملها مع الأموال الساخنة، فعلى الرغم من تحرير أسواقها المالية تدريجيًا، اتخذت السلطات الهندية تدابير للحد من اعتمادها على هذه التدفقات، مثل فرض قيود على استثمارات الأجانب في سوق السندات المحلية وإدارة صارمة لاحتياطيات النقد الأجنبي، وخلال أزمات مالية عالمية متعددة، مثل أزمة 2008 وجائحة كوفيد-19، نجحت الهند في الحفاظ على استقرار نسبي بفضل سياستها الحذرة تجاه الأموال الساخنة.
أيضا، عندما طبقت ماليزيا ضوابط رأس المال خلال الأزمة المالية الآسيوية عام 1997، من خلال إغلاق للسوق الخارجية وفرض قيود على التحويلات النقدية وخروج رؤوس الأموال الأجنبية، وهو ما ساعد على استقرار النظام المالي بشكل أسرع. كما سمحت هذه الضوابط للحكومة بخفض أسعار الفائدة المحلية، وهو ما ساعد على تقليل القروض المتعثرة وتحقيق استقرار اقتصادي أسرع.
فوائد تطبيق ضوابط رأس المال
وكما نرى، بتطبيق ضوابط رأس المال، تمكنت كثير من الدول من احتواء الأزمات المالية التي واجهتها واستعادة استقرارها الاقتصادي، على الرغم من التحديات التي واجهتها على المدى القصير.
يعني ذلك أنه يمكن لضوابط رأس المال أن توفر مساحة أكبر للدول في إدارة أوضاعها الاقتصادية بشكل أفضل، إلا أن تطبيق الضوابط يعد أكثر نجاحًا في تقديم راحة مؤقتة بدلًا من حلول دائمة، حيث تلعب شمولية وامتداد التدابير التحكمية دورًا حاسمًا في فعاليتها.
ملخص القول، إن الأموال الساخنة تشكّل خطرًا كبيرًا على الاقتصادات الضعيفة التي تعتمد على تدفقات رأس المال الأجنبية لتلبية احتياجاتها التمويلية، ففي هذه الاقتصادات، يؤدي الاعتماد الكبير على الأموال الساخنة إلى زيادة التقلبات المالية، حيث تكون الأسواق عرضة للصدمات الخارجية التي قد تؤدي إلى هروب رؤوس الأموال بشكل مفاجئ، وهو ما يترك الاقتصاد في حالة من العجز المالي، مما يزيد من الضغوط على سعر الصرف والاحتياطيات النقدية، ويجبر الحكومات على اتخاذ إجراءات قاسية مثل رفع أسعار الفائدة أو فرض قيود على رأس المال، وهو ما قد يعمّق الأزمات الاقتصادية، ولنا في وضع الاقتصاد المصري منذ منتصف 2021 عبرة.
ففي ظل ضعف البنية الاقتصادية وعدم وجود قاعدة إنتاجية قوية، غالبا ما تؤدي الأموال الساخنة إلى خلق وهم الاستقرار المؤقت، إلا أن هذا الاستقرار يكون هشًا، حيث إنه يعتمد بشكل أساسي على تدفق رؤوس الأموال المضاربة، وليس على استثمارات طويلة الأجل، لذلك، فإن الاقتصادات الضعيفة -ومنها مصر بالطبع- تحتاج إلى وضع استراتيجيات محكمة للتعامل مع هذا النوع من التمويل، وللحديث بقية.