ساعة تسول
لو سمحتَ، من فضلك، ساعدني أن أعبُرَ الطريق.. كسَرَ هذا الصوتُ _ الذي بدا واهنًا _ شرودي، بينما كنتُ أمضي في طريقي بلا هدف، أتسكع في الشارع الطويل الممتد، متجهًا إلى منزلي الذي يستقر في آخره.
أنظر خلفي باحثًا عن مصدره، رجلٌ في العَقد السادس تقريبًا، مترهلُ الجسد، يُمسك بعصى غليظة يتوكأ عليها، يرتدي نظارةً سميكةً تُطِلُّ من خلفها عينان مُغمَضَتان، فعرفتُ أنه فاقدٌ للبصر.
عُدْتُ إليه مُسرعًا، وأمسكتُ بإحدى يديه، وأخذتُ أقفز به بين السيارات، التي ما لبِثتْ أن هدّأتْ من سرعتها، مُستجيبةً لبُطءِ حركتنا.
ما أن استقرتْ قدمانا على جانب الطريق، إلا وطلبَ مني أن اصطحبَه إلى أحد المحال المعروفة التي يزدحم بها الشارع، سألتُ عن صاحبه، _ بعد أن أخبرني باسمه _، على الفور أقبلَ الرجلُ على رفيقي وأمسك بيدَيه بُرهةً ثم غادرنا.
مضى الرجلُ متأبطًا ذراعي، _ كما لو كان مُبصرًا _ يُحدثني عن تجاربه، ومغامراته قبل أن يذهبَ نورُ عينَيه.
يَلمحُنا أحدُ قاطني الشارع، فيُسرع إلينا مُرحِّبًا بصاحبي، ويُسلمُ عليه، ثم فعلَ نفسَ الشيء الذي أقدمَ عليه سَلَفُه، ليُثيرَ حفيظتي وبعضَ الشكِّ في نفسي!!
حين هممتُ أن أسألَه عن المكان الذي يريد الذهابَ إليه، بادرني بالسؤال عن شركةٍ شهيرةٍ بالشارع، وطلب مني أن أصطحبه إليها، ففعلتُ، وسألتُ عن صاحبها، _ بعد أن أسرَّ لي باسمِه _، أعطاني الرجلُ مظروفًا سلمتُه لرفيقي، ثم واصَلْنا طريقَنا، وأكملَ هو حديثَه الذي بدأه منذ أن التقيتُه بلا توقفٍ أو تعب، أستمعُ باستسلام لقصصه التي يَحكيها بطلاقة، لكنه سرعان ما قطعَ حديثَه وسألني مرةً أخرى، عن محلٍّ لقطع غيار السيارات على يسار الطريق، وكأنه تذكَّره فجأة، يتحدث بثقةِ العالِم بتفاصيل المكان، أسأله عن اسمِه فيرد: (العالمية)، أضرب ببصري في الفراغ المحيط بنا، وأُجيبه: على بُعْدِ خُطوات... نتوجه إليه سويًّا بخُطى بطيئة، ويُقابلنا الرجلُ بابتسامةٍ تَنُمُّ عن معرفةٍ سابقة، ويَدُبُّ يدَه في سيالة جلباب رفيقي.
بعد ساعةٍ تقريبًا من المشي هدَّني التعب، وشعرتُ بالرغبةِ في الانصراف، لكنَّ حالةَ الرجل تمنعني، فهو ضريرٌ لا حيلةَ له، شعرتُ لوهلة بتأنيبِ الضمير لمجرد أن طرأتِ الفكرةُ على ذهني، لكنني اضطُرِرتُ في النهاية للبحث عمّن يُواصل ما بدأتُه، وسلمتُه بالفعل لشخصٍ آخر يَسير في نفسِ الطريق، سرعان ما أمسكَ صاحبي بيدِه، ووضع شفتيه الغليظتين في أُذُنِه، وأخذ يَسْرِدُ عليه انتصاراتِه!!
عُدتُ إلى المنزل، أسترجع تفاصيلَ اللقاء وازدحمَ رأسي بالأسئلة، وبعد أن قطعتُ الشك باليقين، اكتشفتُ أن الرجلَ أخذني في إحدى رِحْلاته اليومية يتسولُ بي!! وانفجرتُ في نوبةٍ هيسترية من الضحك…يبدو أنني مارستُ التسولَ لمدةِ ساعة!!