رابطـــة كارهي سليــم العشي: عقيدة داهشيّة أم تنبؤ بالديانة الإبراهيمية؟
أحبُّ الروايات والأعمال الإبداعية التي تهزُّ قناعاتي من الداخل أو تحرك الماء الراكد لوجداني، أضف أيضًا أنني أعشق الأعمال صاحبة الروح المُشاكسة، وفي كثير من الأحيان أشعر بالملل خلال كتابة السطر الأول لأي مقالة أوشك على كتابتها؛ ربما لأن الولوج إلى عالم جديد داخلك قد تشكَّل ونُحِت من خلال غوصك في عالم خيالي لشخصٍ آخر، يجعل الأمر صعبًا! أو ربما لأن من الأمور المعقدة اختزال أفكار كثيرة داخل عالم واحد ليس بالأمر الهيِّن، خصوصًا إذا كان العمل ضخمًا، وذا أبعاد متشابكة ومتداخلة.، أمّا الأمر الأصعب، فهو عندما يكون العالم غامضًا!
وفي حقيقة الأمر، أنني قررتُ بمحض إرادتي الانضمام إلى رابطة كارهي سليم العشي، للروائي المصري سامح الجباس والذي أصفه بالرجل صاحب القلم الرفيع، ولا أقصد المدح المبالغ فيه، بل على العكس؛ لأن الجباس يدخل إلى عوالم غريبة وينتقي شخصيات أغمض وأغرب، وأنا أميل لمن يخطو خطوات واثقة وثابتة دون تردد، على أعتاب الأماكن المُعتمة، ويدق أبواب الغموض بمحض إرادته.
وفي حقيقة الأمر، عالم سامح الجباس يحمل الكثير من العوالم الغامضة التي تحتاج إلى عين فاحصة وماحصة وناقدة تقرأ على مهل.
السبب الأول: أن جميع أعماله تتشابك مع قضايا واقعية، يغزلها مع الخيال مما يُضفي عليها نوعًا من التخييل والواقعية معًا، مما يخلق مزيجًا إبداعيًا رائعًا يسحب القارئ إلى عالم بُني على أساس عميق من الأفكار، وفي فلكه تدور شخصيات معقدة، ومن هنا نفهم المنهج الواقعي في الطرح الإبدعي الأدبي، كما وصف الناقد العلامة دكتور صلاح فضل، فإن أهمية اتصال الآداب وتبادلها التأثيرات المختلفة التي تتجاوز النطاق الأدبي البحت لتؤدي إلى تعارف الشعوب على أسس متينة من الواقع الحقيقي والمعرفة المباشرة العميقة معًا، فإنه قد يكتسب في بعض ملامحه الجوهرية بروزًا أوضح وأنطق مما كان عليه في وطنه الخاص.
ولا بد أن نأخذ في الاعتبار أن العامل الأساسي هو دائمًا الضرورة الأدبية للوطن المنقول إليه، فكل أدب عظيم وأصيل - مهما كانت قدرته الهائلة على امتصاص العناصر الغريبة عنه - له خط تطور خاص به، محكوم بالظروف الاجتماعية والتاريخية التي يمر بها وطنه، وبطبيعة لغته وتراثها وأشكال التعبير فيها.
السبب الثاني: أن الجباس، من داخل مدينته الجميلة الساحرة السويس، يسافر إلى أوطان بعيدة، مرة في رحلة إلى فلسطين حيث يخصص رواية عن عزيز ضوامط، البطل المغوار المغمور الذي أحياه من التاريخ ليكتب عنه ويعيد ذكراه، ومرة داخل السويس في حي الأفرنج، ومرة إلى لبنان مع بطل الرواية سليم العشي، فالمكان غير محدد ولا محكوم، بل أستشعر كأنه طير حبيس مكانه الحقيقي – أى الجباس- يسافر عبر الخيال من خلال الروح، فيخلق خطين يتقاطع أحدهما مع الآخر، مما يخلق تشويقًا وإثارة لدى القارئ داخل عالم إبداعه الذي خلقه بعقله ووجدانه المميز، وبمجرد البعد عن ضفتي الرواية، يستشعر الغربة والوحدة، ليعود لهذا العالم ليعرف أكثر عن الشخصية الغامضة التي لم يكن على دراية بها إلا من خلال قلم هذا الكاتب.
- عالم الداهشية رحلة إلى لبنان:
يقول سليم: أنا أؤمن بوجود عدالة سماوية، وأن جميع ما يُصيبنا في الحياة الدنيا من منغصات، إنه ليس إلا جزاء وفاق لما اجترحناه في أدوارنا السابقة من آثام وشرور، ولهذا يجب علينا أن نستقبل كل ما يحل بنا من آلام الحياة ومآسيها، غير متبرمين ولا متذمرين بل قانعين بعدالة السماء ونظامها السامي، أنا – بريهان- لا أحب أن أنعته بالدكتور أو داهش؛ لأنه لم يدهشني ولم يثر داخلي أي رغبة لعقيدته، لكن من هو؟ سليم العشي، المعروف بلقب داهش، هو مؤسس العقيدة الداهشية، حركة دينية نشأت في لبنان في منتصف القرن العشرين.
وُلد سليم العشي في عام 1909 في القدس ببيت لحم، ونشأ في بيئة مسيحية شرقية، ثم انتقل إلى لبنان حيث أصبح معروفًا بشخصيته الغامضة وقدراته الروحية الخارقة كما يدعي أتباعه، وقد كان داهش يزعم أن لديه قدرات روحانية خارقة للطبيعة، مثل القدرة على شفاء الأخرين، وقراءة الأفكار عن بُعد وتجسد الأرواح أو ما يعرف بالتقمص، تلك المزاعم جعلته شخصية مثيرة للجدل، حيث اتهمه البعض بالشعوذة والخداع، بينما اعتبره أتباعه نبيًا ورسولًا حقيقيًا.
أسس العشي العقيدة الداهشية في عام 1942، وهي خليط من تعاليم مُستمدة من الأديان السماوية الثلاثة اليهودية، والمسيحية، والإسلام، وقد أضاف إليها الفلسفات الشرقية، التي تركز على الروحانية والأخلاق وتحقيق السعادة الداخلية، وكان للعقيدة أتباع مخلصون في لبنان، وقسم الجباس الرواية إلى سبعة فصول من خلال شخصيات تناولت معجزاته معهم؛ وهم: ماجدا حداد، زينا حداد، ماري حداد، جورج خصبا، حليم دموس، غازي براكس، المؤمن الأول يوسف الحاج.
عاش سليم العشي حياة مليئة بالجدل والمواجهات مع السلطات الدينية والسياسية في لبنان، وأسقط عنه الرئيس بشارة خوري الجنسية اللبنانية، وقد تم نفيه واعتقاله في بعض الأحيان لأن بعض الناس يظنون أنه يمتلك ستة أرواح. تُوفي في عام 1984، مما يؤكد أنه لا يملك لنفسه شيئًا، ولكن حركته الروحية استمرت من خلال أتباعه ومريديه الذين يواصلون نشر تعاليمه.
- عقيدة داهشيّة أم تنبؤ بالديانة الإبراهيمية؟
تنص الداهشية كما نسج بخط خياله الرائع سامح الجباس عنها: إن الداهشية ليست شعارات نتغنى بها، إنها العمل الدؤوب لإصلاح الذات، هي التزام ووفاء، وخطى حثيثة على طريق صاحبها، فهي الطريق إلى السماء، والداهشي المؤمن هو ذلك الذي يحفظ العهد والوفاء؛فالصلاة والصيام طقسان ملزمان لا يقبلان إلا من مؤمن صادق، أعلن الولاء الله ورسوله، فالصلاة هي عطش النفس إلى بارئها، تروى بمناجاته، هي زكاة الروح لمبدعها تبعد الهم والكرب، يتقرب بها الإنسان من خالقه، بقلب طاهر نقي، ملأته المحبة والإيمان، هي تقوى الله، نستمد بها قوة وعزيمة للثبات أمام التجارب والمحن، فنشعر بالطمأنينة وراحة البال.
على الرغم من أن العقيدة الداهشية تشتمل على مكونات روحية متأثرة بالديانات السماوية، إلا أنها لا تُصنَّف إلا بوصفها ديانة إبراهيمية واحدة شجرة خبيثة وأصلها خبيث، وذلك من خلال وجهة نظري النقدية، فبداية الداهشية كنبتة سرطانية، كانت مع بداية فكرة قيام دولة إسرائيل، ومع فكرة تقسيم فلسطين عام 1947 ميلاديًا، وإشارة الجباس إلى اعتماد ما يُدعى بـ سليم على النجمة الخماسية في جلسات التقمص، ما هي إلا إشارة رمزية لفكرة الديانة الإبراهيمية الرئيسية الواحدة، وهي اليهودية والمسيحية والإسلام، التي تختصر تعاليم الأديان في فكرة الإيمان بإله واحد، واتباع تعاليم الأنبياء إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم السلام.
ويمكن القول: إن الداهشية هي الخلايا السرطانية الأولى، والخبيثة داخل المجتمعات العربية، والإشارة الأولية الخالصة لقيام الديانة الأولى أو الأفكار المؤسسة لأي خط مغاير ومخالف للديانات السماوية التشريعية التي وضعها الله، التي تحاول جاهدة محو قضية فلسطين، ومن بين النقاط التي توضح العلاقة بين الداهشية والديانة الإبراهيمية المزعومة الآن، نجد ما يلي:
1. الإيمان بالله: تتشارك الداهشية مع الديانات الإبراهيمية في الإيمان بإله واحد خالق ومدبر للكون، وهي فكرة تضع السم في العسل، ظاهرها يضمر الكثير من الأفكار التي تسلخ الهوية والعقيدة من الشخص، وهذا ما يسمى بفكرة تبديل المصطلحات.
2. الأخلاق والسلوك: تبرز قيم الأخلاق والسلوك الحسن بوصفها نقطة مشتركة بين الداهشية والإبراهيمية، ووضحها الجباس في الفصل الخاص بـ حليم ديموس الرجل الذي اقترح تأسيس الداهشية مهما يكن من أمر الدكتور داهش، فليس بوسع من يقابله إلا أن يخرج بنتيجة واحدة هي؛ أن هذا الإنسان ظاهرة غريبة في مجتمعنا، ويتحدثون عن الشاعر حليم دموس، بأنه قد يكون هو الذي اقترح عليه تأسيس حركة روحانية حين تعرف إليه قبل عام من تأسيسها رسميًا في 1942 لأن دموس، الذي يكبر داهش بـ 21 سنة، هاجر وهو بعمر 17 عامًا إلى البرازيل، حيث تأثر بحركاتها الروحانية، كبعض اللبنانيين الآن هناك، قبل أن يعود في أواسط العشرينيات إلى بيروت.
3. التقمص وتعدد الأرواح: تقترب هذه الفكرة من التقاليد الروحية الهندوسية والبوذية. ووجب على المقال أن يوضح الفارق بين الروح والنفس والجسد. فالجسد ما هو إلا وعاء للروح يعني أنه أمر مادي، فالنفس والروح في السياق الإسلامي يحملان معاني مختلفة. فالنفس تُستخدم للإشارة إلى الروح المتصلة بالبدن يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ - الفجر: 27، وكذلك الذات فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ - النور: 61، والروح تُشير إلى جبريل نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ - الشعراء: 193، والقرآن وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا - الشورى: 52، والدعم الروحي الإلهي وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ - المجادلة: 22، والنفس تُستخدم بشكل أوسع عند الاتصال بالبدن، بينما الروح تشمل معاني متعددة ترتبط بالوحي الإلهي.
باختصار، فعلى الرغم من وجود بعض القواسم المشتركة في جوانب معينة من الإيمان والأخلاق بين الداهشية وما تتزعمه الديانة الإبراهيمية، إلا أن الداهشية تحتفظ بطابعها المادي المستقل المؤثر على أصحاب العقول التي تنظر إلى الحياة بالنظرة المادية حتى لو زعمت أنها تميل إلى الروحانية والخلاص إلى الإله الواحد، فالإيمان بالله يعني خلاص القلب والروح له دون غيره، وفكرة قيام عقيدة جديدة تعني في ذاتها أن هناك ديانة رابعة مغايرة لتعاليم الرسل وأنبياء الله.
ونصل في النهاية إلى أن أي عمل إبداعي يحمل في طياته مجموعة من الأفكار التي تتسرب في لغة الحوار وعناصر تكوين الشخصيات، لكن المثير هو عندما يستلهم الكاتب شخصية من الواقع مثل سليم العشي ويضيف إليه خياله الفني. فقد تذكرت ما قرأته في كتاب نقدي يتناول أهداف وغرض القراءة الثقافية، خاصة عند تحليل كليلة ودمنة وألف ليلة وليلة، فقد صنف النقاد كليلة ودمنة كنص يخاطب المثقفين ويحمل معاني رمزية ثمينة، بينما اعتبروا ألف ليلة وليلة أدبًا شعبيًا يخاطب العوام ويقل مرتبة في الثقافة، هذه النظرة تعد مجحفة ولا تقدر جماليات الرموز الموجودة في النصوص، دون التعمق في النظريات، عندما قرأت رابطة كارهي سليم العشي تأثرت ببعض الشخصيات، وبراعة الروائي سامح الجباس في رسم تطورها الدرامي عبر فصول الرواية، واحترمت عمله الوثائقي الضخم في تجميع المعلومات، والوثائق، والكتب القديمة، بل وتحليل جميع المقالات، والدراسات، والروايات، والمجموعات القصصية التي تناولت حياة سليم العشي، وأعجبت بفكرة تعقيب المؤلف وقصة الحب التي نشبت بين الفتاة اللبنانية فاطمة التي جاءت إلى مصر تطلب منه التفرغ الكامل لكتابة رواية عن شخصية هذا الرجل من قِبَل مُنظمة خارجية. وتتوالى المفاجات الرائعة داخل الرواية ففي حقيقة الأمر من خلال التحليل لا أرغب في حرق الأحداث، بل أشرت فقط لأهم العناصر التي أثارت دهشتي.
فالرواية تطرح العديد من الأسئلة، ومُدهشة من الناحية الفنيّة، ومليئة بالرموز التي تحتاج إلى فكّ الشفرات. ويرجع كرهي الذي جعلني أنضم إلى رابطة كارهي سليم العشي إلى براعة رسم الشخصية وبث الروح فيها من نفخة روح قلم كاتب مبدع، حتى وإن لم تكن الشخصية ظاهرة بذاتها، فقد ظهرت على لسان الشخصيات السبع في الرواية مما أضفى عليها الكثير من الغموض والجمال والبغض مني في الوقت ذاته،
أمَّا عن أجمل العبارات التي لمست داخلي سؤال أطرحه على نفسي كثيرًا؛ هي: أنا غريب في هذا العالم، وكم أحنّ إلى تلك الساعة التي أعود فيها إلى وطني الحقيقي، ذكرتني بقصيدة الشاعر أحمد فؤاد نجم لمسلسل حضرة المتهم أبي، عن مجيء الإنسان لهذه الدنيا التى لا يجني فيها إلا المتاعب:
أنا لما جيت من الغيب العدل كان كيفي
والحق كان مطمعي والحب كان سيفي
دقيت على الأبواب لقيتني في السرداب
غابة من الأنياب مسنونة حواليا
ونطرح سؤال المقالة: عقيدة داهشيّة أم تنبؤ بالديانة الإبراهيمية؟ نصل إلى أن الداهشية محاولة من محاولات توحيد الديانة، فيبدو ما نعيشه الآن نسخة مكررة مما سبق، ولكن بصورة أشرس داخل مجتمعاتنا، سلط الجباس الضوء عليها بطريقة إبداعية فلسفية تجعل القارئ داخل حلبة فكرية لا تنتهي.