ويسألونك عن الهوت موني
على مدار أسبوعين تقريبا من قرار تحرير سعر الصرف الأخير، تابعت باهتمام شديد مجريات الأمور وأهم أحداثها فيما يخص سوق الدين السيادي المحلي لتتبع حركة ما يعرف بالأموال الساخنة، لما في ذلك من إشارات بشأن الوضع الاقتصادي ومدى استقراره على المدى القصير على الأقل.
وفي الحقيقة فقد حظى هذا السوق بانتعاشة كان قد فقدها منذ أشهر طويلة، وذلك بفضل تابعات صفقة رأس الحكمة، والعائدات المرتفعة التي توفرها الدولة على أذونها والتي تجاوز الـ30%، بما يضعها في مستوى ثالث أعلى عائد على أذون الخزانة بالعملة المحلية من بين 23 سوقا ناشئة، بحسب بلومبرج.
لكن مشاهد التداول بعد 4 جلسات خلال الأسبوعين تستدعي النظر والتحليل، إذ إن مصر طلبت المبالغ الأسبوعية التى اعتادت عليها، قبل الصفقة أو إتمام الاتفاق مع صندوق النقد والاتحاد الأوروبي، وهي110 مليار جنيه بواقع 25 مليار جنيه استحقاق 3 شهور ومثلهم استحقاق 9 شهور، و30 مليار استحقاق 6 شهور ومثلهم استحقاق سنة،
أثمرت هذه الطروحات، عروضا بـ251 مليار جنيه لـ 3 شهور، أخذت الدولة منهم 50 مليار فقط وهو الرقم المطلوب فى أسبوعين من العطاءات، كما وصلها عروض بـ 187 مليار جنيه لفترة الـ6شهور أخدت منهم 61 مليار وهو تقريبا الرقم المطلوب لأسبوعين أيضا، وحتى هنا لا توجد إشكالية.
على عكس ما حدث عندما وصلت عروض بـ 530 مليار جنيه لفترة الـ ٩ شهور، حيث أنها قد أخذت منهم 190 مليار رغم أن المطلوب كان 50 مليار فقط بزيادة 140 مليار، وكذلك وصلت عروض بـ662 مليار لفترة السنة، فأخذت منهم 306 مليار بزيادة246 مليار عن الرقم المطلوب.
ويشير تحليل هذا المشهد، إلى أن الدولة المصرية تحاول أن تبتعد عن الأموال الساخنة المطلوب سدادها بعد 3 أو 6 أشهر، وتركز بشكل أكبر على المدد الأطول نسبيا، لأجل الـ 9 شهور والسنة.
وتوضح المتابعة الدقيقة، وجود أقبال كبير من الأجانب على شراء أدوات الدين المصرية، حيث أن صافي قيمة مشتريات الأجانب في آخر جلسة وصل إلى 1.75 مليار دولار في حين أن صافى قيمة مشتريات العرب/الخليج وصل إلى حوالى 80 مليون دولار، وذلك رغم رفض أغلب الطلبات لشراء أذون لـ 3 شهور.
وبلغ إجمالي ما تم بيعه من أذون بعد4 جلسات انعقدت بعد قرار تحرير سعر الصرف الأخيرة 4.52 مليار دولار، استحوذ الأجانب منهم على 4.1 مليار والباقي للعرب، كما أن %99.9 من الشراء تم لصالح مؤسسات وبنوك وصناديق استثمار عالمية، ونسبة %0.1 لأفراد أجانب.
ويطرح هذا المشهد تساؤل جوهري.. نحن أمام دولة نجحت في جلب موارد دولارية ضخمة من رأس الحكمة وصندوق النقد والبنك الدولي والاتحاد الأوربي خلال فترة وجيزة لسد فجوة التمويل، بل وتحولت من فجوة تقدر بـ 13مليار دولار إلى فائض تمويلي 26 مليار دولار بحسب تقرير جولدمان ساكس الأخير، لماذا إذن تستمر في جمع أموال ساخنة، ولماذا توافق على مبالغ أكبر من حاجتها؟.
بالطبع لست مخولا للتوضيح، لكن تحليلي الشخصي للموقف يشير إلى 3 سيناريوهات هي السبب فيما يحدث، أولهم بلا شك أن هناك محاولات تهدف إلى تعزيز سعر صرف الجنيه مقابل العملات الأجنبية مرة أخرى، خاصة وأن صفقة رأس الحكمة هي الوحيدة التي وفرت تمويل دفعة واحدة، أما بقية الاتفاقات فعائدها المادي مجزأ.
كما أنه بحكم المنطق والسوق أيضا، فعائد صفقة رأس الحكمة قد يكون عليه قيود في الصرف ضمن الاتفاق غير المعلن، وهذا الأمر متوقعا لأنه إذا كان أحد في موضع دولة الإمارات العربية المتحدة ورأى أن أمواله تُستخدم عدة مرات لإنقاذ مستثمري المحافظ، فمن الطبيعي أن يضع قيودًا هذه المرة لاستخدام الأموال في مشاريعه، خاصة مع ما لهذه المشاريع من عنصر استيراد يحتاج إلى العملات الأجنبية مستقبلا.
إن صح هذا السيناريو المدعوم بعدم استخدام أموال الصفقة في دفع المستحقات، فإذن أموال الإمارات هي بمثابة "بطانة" للأموال الساخنة والاتفاق مع جهات التمويل الدولية، حيث تحاول الدولة المصرية جمع الكثير من الأموال الأخرى حولها بشكل رئيسي في محفظة متوسطة الأجل، كما بدا واضحا في نتائج العطاءات.
السيناريو الثاني يشير إلى أن الدولة لا تنتوي تصحيح مسارها الإنفاقي وتجمع أموال ضخمة لدعم خططتها التوسعية دون أي عظة من الأزمة الأخيرة أو حتى فهم حقيقي لمنظومة عمل الأموال الساخنة، فبالنسبة لمعظم مستثمري أدوات الدين السيادي يعد حرصهم على الوجود الحالي بمثابة مضاربة سريعة أكثر من كونه مركزًا استثماريا، بما قد يعيد الأزمة التي يجري الحديث على أنها انتهت لكن بشكل أعنف، حال خروج هذه الأموال في ظل عدم وجود إصلاحات هيكلية أو لأي سبب خارجي آخر.
أما السيناريو الثالث، فقائم على توقع ووجود احتمالات بأن يكون البنك المركزي المصري يخطط لرفع أسعار الفائدة مرة أخرى، وعليه فتتم عملية اقتراض كبيرة حتى تحقق الحكومة ووزارة المالية أكبر استفادة من الفائدة المنخفضة.
تشير هذه التصورات، إلى أن مستهدفات الدولة لا تزال منهمكة في مواجهة سعر الصرف لا التضخم، بالشكل الذي يرفع راية نفس المسار على خلاف الحديث عن إصلاحه، وأيضا بما يعكس الفهم المحدود لطبيعة الأزمة التي يعانيها الاقتصاد المصري وهو ما يجعلها تزداد أكثر وتتعقد فرص حلها.
بالضبط كما ذُكر في مقال منشور في 2013 بـ نيويورك تايمز، عن منظومة الاقتصاد المصري، جاء فيه نصا أنه: "طالما ركزت مصر على الاعتماد على تدفقات الإيرادات الأجنبية، فإن القائمين على الأمر سيستمرون في تأجيل الإصلاحات الاقتصادية التي تشتد الحاجة إليها، وهي ديناميكية خطيرة تضع مصر على طريق الخراب المالي.
وفي ضوء الكثير من البيانات والقليل من المعلومات، فالوقت لا يزال أمامنا للعديد من المتابعات المستقبلية، وستكشف الأيام سريعا عما تنتوي مصر فعله، هل هناك أمل في إصلاح هيكلي حقيقي أما أنه لا جديد تحت شمس الاقتصاد المصري!، دعونا نترقب