السبت 23 نوفمبر 2024
More forecasts: Wetter 4 wochen
رئيس التحرير
محمود المملوك
أخبار
حوادث
رياضة
فن
سياسة
اقتصاد
محافظات

رحم الله الصادقين

الجمعة 23/فبراير/2024 - 03:25 م

من وقت للتاني بتمر قدامك قصص علاقات إنسانية على قد بساطتها على قد ما بتفضل محفورة في أبعد نقطة في الذاكرة بسبب عذوبتها.

الحقيقة مش بسبب عذوبتها وبس لكن كمان بسبب نقاء أبطالها اللي من لحم ودم مش موجودين في قصص خيالية واللي شوفناهم قدامنا أو كلمناهم أو حتى سمعنا عنهم من غيرنا اللي عاشروهم وقربوا منهم.

أنا مؤمن إننا بالقصص اللي زى دي بنشحن طاقة أرواحنا اللي بتتلكك عشان تتسرسب في الأيام الصعبة دي.. يمكن نلاقي فيها دافع نكمل أو كشاف ينورلنا حتة مش واخدين بالنا منها.. من القصص دي قصة حب جد وجدة صديقي الكاتب الجميل الراحل "أحمد مدحت" رحمة الله عليهم هما التلاتة!

بيقول "أحمد" كانت أول معرفة جدتي بجدي إنها ضربته قلم على وشه!.. شافها، عجبته جدًا، سأل عليها، وقرر إنه يمشي وراها في السوق؛ عشان يشوف أخلاقها وطريقة تعاملها مع الناس.. جدتي، اللي كانت في أوائل التلاتينيات من عمرها في وقتها، بعد وفاة زوجها الأول، كانت بتتاجر في الخضار والفاكهة في قريتها الصغيرة في دمياط.. ماقبلتش إنها تلاقي راجل غريب ماشي وراها لأكتر من ساعتين في السوق.. التفتتله، ونزلت بكف إيديها على وشه!

وقبل ما تمشي، وتسيبه واقف في حالة ذهول من اللي حصل، قالتله بصوت عالي ثابت: (أنا حرة.. ماشي ورايا ليه؟).. بعدها بيومين كان جدي في بيت خال جدتي الكبير بيخطبها منه!.. كل ما كنت أسألها، بعد وفاة جدي بسنين: (كنتي بتحبيه يا نينة؟)، كنت باشوف وشها بتضرب فيه حمرة الخجل، رغم تجاعيده الكثيفة اللي كادت تغطي على ملامحها.. تجاوب: (ومين يا ابني تقدر ماتحبش راجل جدع زيه.. كان سندي.. عمره ما خلاني أحس إني ولية مكسورة.. ولا منعني من إني أتاجر زي ما كنت باتاجر طول عمري.. جبت منه الولد والبنت، وصاني وصُنته).

دايمًا كنت بألاحظ إنها بتقول عليه في كلامها (الجدع).. وكأنه الجدع الوحيد في الكون في نظرها، حتى مماتها.. كنت بترجاها عشان تحكيلي.. وفعلًا، حكيتلي كتير عن خوفه عليها، وإزاي راح جاب الدكتور على الحمار في عز البرد والمطر، لما فضلت سُخنة 3 أيام.. والليالي البرد اللي كانت بتصحى فيها مخصوص تسخنله ماية؛ عشان يتوضى ويروح يصلي الفجر في الجامع زي عادته.

 مئات الحواديت والتفاصيل شديدة البساطة، المشبعة بالبهجة والمحبة.. بعد مرض جدتي بالروماتيزم بشكل أقعدها، وخلي حركتها نادرة جدًا، في نفس الوقت اللي مرض فيه جدي برضو.. ألحّت جدتي على جدي إنه يتجوز واحدة تخدمه.. وبعد إلحاح أكتر من سنتين، وافق جدي، واتجوز واحدة كانت كل علاقته بيها إنها تخدمه في مرضه، ويقدر يتكشف قدامها، عند الضرورة، من غير إحراج.

حكيتلي أمي، من ورا جدتي، عن حال جدتي يوم جواز جدي عليها، وإزاي قعدت تعيط من غير صوت في أوضتها طول النهار، ورافضة إن أي حد يشوفها، أو تاكل أي حاجة.. مشهد النهاية بالنسبة للاتنين كان لايق على رحلة الحب الطويلة الصادقة الهادية دي.. من 21 سنة، مات جدي في حضن جدتي، بعد ما طلب إحضارها بأي شكل لما حس بسكرات الموت.. وفعلًا نطق الشهادتين في حضنها وماتت جدتي من 3 سنين، وهي ملفوفة بعباية جدي.. العباية الصوف اللي كانت بتعتز بيها جدًا، وبتتغطى بيها في الشتا، فوق أي غطا تاني.. رحم الله الصادقين.

• حتى لما الموت بيفرض كلمته وبسببه بيغيب شخص كان واخد حتة من القلب بتفضل ذكرياته اللطيفة باقية من ريحته.. في الوقت اللي زاد فيها منسوب جفاف المشاعر بين الناس بسبب ظروف معظمها مالهومش ذنب فيها بيبقى ضروري من وقت للتاني نفكر نفسنا بالناس اللطيفة اللي قابلناهم، أو عاشرناهم، أو حتى سمعنا عنهم من بعيد لبعيد.. جايز يغيب الإنسان بس الأكيد إن نُبله، وطيبته، وصدقه مستمرين من بعده للأبد.. في كل زمان ومكان رحم الله كل الصادقين.

تابع مواقعنا