لعب دور القاضي والسجان.. أخ يحكم على شقيقه بالسجن عاريًا 11 سنة داخل غرفة مظلمة
في غرفة مظلمة يطل منها شعاع نور يفرق بالكاد بين تعاقب الليل والنهار، لها باب خشبي من العهد القديم كأنه بوابة العبور للدنيا، على يسارها ملابس بالية ممزقة، تعلو الجدران بيوت للعناكب لم تٌزل منذ عقود، وجحور للحشرات امتدت لأمتار، على يمينها سرير حديدي متهالك، يعلوه فراش رث متسخ، تتدلى منه سلسلة حديدية غليظة، مربوطة بإحكام في طرف السرير، تتمدد حلقاتها حتى تصل إلى معصم شاب، يعرفها حق المعرفة، وكيف لا وقد أقاما معًا في هذه الظلمة أحد عشر عامًا، فهنا روايات لم تحك في هذا المنفى، هنا قصص وحكايات، دموع وتأوهات، أوجاع داخل تلك الظلمات، استمرت لسنوات، لا نعرف كيف تحمل صاحبها طيلة تلك الأوقات، بين الآلام والمشقات.
احتجاز 11 سنة
بين الجدران أحلام انتهت قبل مولدها، حياة اندثرت بين ثنايا أكوام من الطوب، مرصوصة فوق بعضها البعض، لم يتغير شكلها في نظر بطل الرواية، وذكريات عديدة تمت إعادتها في خاطره، مآس لا حصر لها ولا عدد، هو حبس انفرادي وسط حي شعبي، دون حياة آدمية أو تريض في جو مرعب.
مرت السنوات وبطل الرواية محبوسًا داخل تلك الغرفة، دون ذنب اقترفه أو إثم ارتكبه، لم تشفع له دموعه وتوجعاته، توسلاته ونظراته، لأخ له من أمه وأبيه، احتجزه دون أن تتحرك مشاعره، أحد عشر عامًا لم يستيقظ فيها ضميره، ولم تطغى عليه إنسانيته، لم يحن قلبه لرؤية أخيه الأصغر محبوسا مقيدا، يبلل جسده ويبكي حاله، يمر العيد ثم العيد ثم أحد عشر عيدا ولا يحتفل، تمر السنة ثم السنة وأحد عشر سنة ولا يتبدل حاله، الكل يمر بجواره ولا يعوده، الكل عالم بحاله ولا يساعده، الكل اعتاد الوضع، فلسان حالهم يقول إن في هذه الغرفة وحش إنساني إذا حُلت قيوده سيهلكنا جميعًا، ولا نصيب لهم من مخيلاتهم إلا الخيال.
الشقيقتان تتحركان لإنقاذ أخيهما
مركز بدر بالبحيرة، كان شاهدًا على جريمة توصف بأنها جريمة العصر، تفوق قدرات التخيل وتثير مئات الأسئلة حولها، حين اقتلع شخص قلبه - رغم حسن نيته - واحتجز شقيقه في فترة تراوحت بين الـ 11 إلى 17 عاما، داخل غرفة مظلمة داكنة في منزله، لارتكابه عدة مشاجرات مع بعض الجيران، وتهديد أحدهم بالقتل، فرغب أخوه الأكبر أن يحتجزه منعًا لوقوع الجريمة، لكنه ارتكب جريمة أخرى لم تصل إلى حد القتل المادي، بل قتل نفسي ومعنوي، سلب من شقيقه حريته وحياته، مستقبله وآماله، أحلامه وطموحاته، وجعل منه حيوانا مفترسا مربوطا في سلسلة حديدية، طوال هذه المدة.
بين ثنايا البيت محل الاحتجاز تواجدت آمنة وخضرة علواني، الشقيقتان للمحتجز أحمد علواني، مرت عليهما السنون ولم يتحرك قلبهما لإنقاذ شقيقهما، سوى بالنذر اليسير من اللوم لشقيقهما الأكبر، حتى اعتادا رؤية أخيهما مقيدا يبلل جسده العاري، ويأكل فتات ما يلقونه إليه صبيحة ومساء، حتى لامس جلده عظامه، وشحب وجهه وجحظت عيناه، لكنهما تناسى أمره حتى نسياه.
بعد مرور أحد عشر عامًا على هذه الجريمة والشاب قابع في الغرفة، قررت الشقيقتان أخيرًا أن يتحرك لهما ساكن، فكفاهما صمت وسكوت عن هذه الجريمة النكراء، كفى شقيقمها عذاب ووجع وألم، الآن لا بد أن تحل قيوده لا بد أن يسترد حريته، ويخرج من سجن شقيقه، فما عادت لديه رغبة في قتل أو ارتكاب جرم، فكفاه ما لاقاه، وإذا بهما تتوجهان إلى قسم شرطة بدر بمديرية أمن البحيرة، تحرران محضرًا ضد شقيقهما الأكبر الذي احتجز شقيقه طيلة أحد عشر عامًا.
في الطابق العلوي من قسم الشرطة يقبع أمين الشرطة في البلوكامين، يحرر محاضر ويسمع آلاف الشكاوى من المواطنين بعضها كيدي والآخر مبالغ فيه، والقليل منها الواقعي الصادق، أما تلك الشكوى القادمة مع تلك السيدتين فلم يسمع بها قط، ولم تمر عليه في دفاتر الشرطة مثلها وبالأحرى لن يمر.
دلف أمين الشرطة إلى رئيس المباحث يخبره بما سمعه من السيدتين أنهما تشكوان أخيهما الأكبر عن احتجاز شقيقه في غرفة داخل المنزل بدائرة القسم طيلة 11 عاما، وأمر بإدخالهما حالا إليه يستمع بنفسه إلى تلك القصة التي ارتكبت منذ عهد قديم.
اعترفت الشقيقتان آمنة وخضرة بالقصة كاملة أمام رئيس المباحث، وكلما ضلت إحداهما ذكرتها الأخرى ببعض التفاصيل، عن احتجاز شقيقهما سيد علواني للآخر طيلة سبعة عشر عامًا وليس أحد عشر فقط، وأن لا خلاف بينهما وبين شقيقهما سيد سوى أن ضميرهما تحرك وتريدان إنقاذ ذلك المسكين.
وتوجهت قوة أمنية إلى المنزل محل البلاغ، وتحركت السيارات إلى مركز بدر، ودلفوا إلى البيت، حتى رأوا الفاجعة، ذلك المشهد الذي يندى له الجبين وتقشعر له الأبدان، إنه شاب أشبه بإنسان ملقى على الأرض، عاريًا من كل ملابسه، يلتقط أنفاسه بصعوبة، يتمتم ببعض كلمات غير مفهومة، وينظر إلى القوة باستغراب فهم أول زيارة تدخل عليه من عهد قديم، وبعد عدة إجراءات اتخذها رجال المباحث، تم القبض على الشقيق الأكبر سيد علواني بتهمة اختطاف شقيقه، واصطحاب المحبوس إلى قسم الشرطة لسماع أقواله.
الضحية يروي تفاصيل احتجازه
عادت لأحمد علواني المحتجز ذاكرته، وبدأ يقص على رئيس المباحث ما حدث طيلة تلك الأعوام، وذكر لحظات احتجازه وما لقاه فيها من أصناف التعذيب والاعتداء والحرمان من الحياة والزواج والتعليم والعيش بآدمية، ومن شارك أخاه في احتجازه، ومن كان يعلم باحتجازه وأولهم شقيقته فاطمة علواني، التي لم تفكر في تخليصه حتى اللحظة، وأظهر الإصابات التي لحقت به جراء اعتداء شقيقه عليه طوال فترة الاحتجاز، مشيرًا إلى أنه احتجز عاريا طوال تلك المدة.
أما بالاستماع إلى اعترافات المتهم، فلم ينكر جريمته وأفعاله، لكنه حاول تبريرها بأنه ارتكب جريمة صغرى لمنع جريمة كبرى، وقال إن الاحتجاز مقابل القتل، ولو كنتم في موقفي لفعلتم ما فعلته، ولاحتجزتموه دهرًا، حتى تنقذوا روحًا من الهلاك، ولم ينكر اعتداءه على شقيقه كلما حاول الهرب أو النجاة بماسورة حديدية حتى أصابه في عدة مواضع.
تحريات المباحث في تلك الواقعة أثبتت صحتها، وأن المتهم سيد علواني احتجز شقيقه أحمد علواني داخل غرفة، وأنه اعتدى تعدى عليه باستخدام ماسورة حديدة، محدثًا به عدة إصابات، وأنه منع عنه الزيارة والرعاية الطبية، وأن شقيقاته تسترتا على الجريمة، لكن لم تتوصل التحريات إلى المدة التي تم احتجازه بها فتواترت الأقوال بين أحد عشر عامًا وسبعة عشر عامًا.
بمناقشة الطبيب الشرعي أثبت أن المجني عليه يعاني من نحافة واضحة، وإصابات متفرقة بأنحاء في جسده، بعضها حديث والآخر منذ سنوات، مع وجود فقد قديم لبعض الأسنان، ومعالم التهاب تفيد باحتجازه مدة طويلة دون رعاية، ووجود تلوثات رضية في ذراعه نتيجة تقييده بسلسلة حديدة فترة طويلة.
بعد الانتهاء من سماع أقوال أطراف القضية من مجري التحريات والمتهم والمجني عليه والمبلغين والشهود والطب الشرعي، قررت النيابة العامة إحالة المتهم سيد علواني إلى محكمة الجنايات بدائرة استئناف الإسكندرية، عن تهتمي احتجاز شقيقه أحد عشر عامًا عاريًا، وحيازة أدوات حديدية وهي سلاسل وأقفال وماسورة مما تستخدم في الاعتداء على الأشخاص دون مسوغ قانوني.
ما يزيد قصتنا غرابة، هو القبض على الشقيقتين آمنة وخضرة، بتهمة التستر على الجريمة، وإخفاء خبر احتجاز شقيقهما 11 سنة، وتم التحقيق معهما وإحالتهما إلى محكمة الجنح بتهمة التستر على جريمة خطف.
أما ما يزيدها غرابة فوق غرابة، أن الشقيقتين آمنة وخضرة تم الحكم عليهما بالحبس سنة بتهمة التستر على الجريمة من محكمة الجنح، أما المتهم الرئيسي وهو سيد علواني تم الحكم عليه بالحبس سنة مع إيقاف التنفيذ، ولم يقض بالسجن يوما واحدًا، وكان السجن سنة لشقيقتيه.
بعد التحقيق في الواقعة والاستماع إلى المحامي محمد مصطفى الجرواني من حضر الواقعة، للتأكد من صحة ما ورد بأقوال المتهمين، توصلنا إلى حقيقة ما حدث قبل الاحتجاز، وهو ما تمثل أن تلك الأسرة التي تضم كل الأطراف هي من صعيد مصر، ونزحت إلى محافظة البحيرة هربًا من المشاكل التي أحدثها المجني عليه، حين حاول التقرب من فتاة تعمل بائعة متجولة بالقطارات، والتنافس عليها مع شاب آخر وتشاجره معه، وتعرضه للإصابة ومكوثه في المستشفى عدة أشهر، وفور خروجه حاول الانتقام من خصمه، إلا أن شقيقه الأكبر سيد علواني علم بالأمر فاحتجزه في المنزل أحد عشر عامًا.