اغتراب الصورة وحتمية البصيرة
استطاعت الصورة بمختلف أنواعها أن تثبت مقدرتها الفائقة على التأثير في كافة الحقول والنواحي الثقافية والإبداعية ربما لوجود عناصر مُشتركة تربط كل نواحي الإبداع بعضها البعض من ناحية، ومن ناحية أخرى نجد أن مسألة تعلّم قراءة الصورة وتأويلها وفهم مُعطياتها ورهاناتها يعتمد على تفكيكها وفهم مكوناتها وبالتالي تطوف بالمتلقي حول عوالم أكثر دهشة ومعرفة، هذا كله ما يقودنا إلى توسيع دلالة فهم الصورة لتشمل أيضًا الكثير من النشاط الذهني والعقلي والفكري بالإضافة إلى وظائفها المعروفة كـ صورة لها رسائل ودلالات معينة.
يقول الله تعالى في سورة غافر من كتابه العزيز:"اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ"و في الآية رقم 6 من سورة آل عمران يقول: "هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ". وفي الحديث الشريف يقول سيدنا محمد صلّ الله عليه وسلم: "إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ ". إذن، هو الله جلّ وعلا المُصوّر وتلك هي الصورة، والله عز وجل قد أنعم على الخلق جميعًا بجمال الصورة وأهميتها لنا في مختلف نواحي الحياة.
ومن المعروف أن وجود الصورة ارتبط بوجود الإنسان على وجه الأرض وذلك من تاريخ وجوده داخل الكهوف مُحتميًا بجدرانها، إلى أن انتقل إلى عصر التمدّن الاجتماعي في حياته فيما بعد،و بالفطرة ولأنها ضرورة حياتية لها أهمية وظيفية كبيرة نجد أن هذا الإنسان البدائي قد صنع الصورة أو رسمها أو نقشها على جدران الكهوف، وقد جاءت هذه الصورة التي رسمها ونقشها لتمثل حياته البيئية التي عاشها، أو حتى التي يتمنى أن يصدرها للآخر فرسم الحيوانات التي كان يخاف منها، وحتى التي استأنس بعضها فيما بعد.وأيضًا رسم حيوانات أخرى من الخيال للإيحاء بأنه الأقوى – أي صنع صورة تحمل رسالة ومضمون للآخر - ومع تتابع العصور وتمدنها الحضاري، والمجتمعي أيضًا تطورت بطبيعة الحال أشكال الصور، حتى اشتملت كل الأنواع المتعارف عليها من صور بصرية وأيقونية ومتخيلة وفوتوغرافية وثابتة ومتحركة وصور رقمية.. وغيرها من أنواع مختلفة.
هذا عن الصورة، أي عن البصر.. أو إدراك الشيء المرئي بشكل مباشر، أما "البصيرة" والتي تُعرف بـ: قُوَّةُ الإِدراك والفِطْنة، أو النَظَرٌ النافِذ إلى خَفايا الأُمور. فهي الإدراك أو بلوغ أقصى الشئ. وهي أكثر شمولًا وعمقًا من البصر.
ومن هنا، نجد أن قضايا الفينومينولوجيا المعنية بدراسة الصورة أو علم الظواهر كما يسمى باللغة العربية تطرح لنا العديد من النظريات والرؤى والمناهج المتنوعة في مسألة دراسة الصورة بشكل معرفي فـ فنجد أنها – أي قضايا الفينومينولوجيا – تعتمد على فلسفة المعنى والخبرة في تحليل الظاهرة وأساس المعرفة، وكما عرفها الفيلسوف الألماني "هوسرل" بأنها علم يدرس خبرة الوعي، سواء خبرته بالأشياء، أو الإدراك أو هي علم الظواهر والمقصود هنا ظاهرة الوعي أي دراسة الوعي بالظواهر وطريقة إدراكها لها داخل الصورة، وهي محاولة للدمج بين البصر والبصيرة من خلال دلالات ومعطيات الصورة من خلال تفكيك عناصر تكوينها.
على أي حال، يقول: ميرلو بونتي الفيلسوف الفرنسي المعروف أن "فينومينولوجيا الإدراك" تعني أن العالم المحيط من حولنا والذي نحاول إدراكه ما هو إلا سلسلة من الآفاق وقد يخفي الأفق دائما جزءًا من الواقع، كما أن العالم لا يدرك كله، لأن تعقده وغناه لا حدود لهما، الأمر الذي ربما يدفع المهتمين بدراسة الصورة والفنانين التشكيليين إلى التعبير عن الثراء اللامحدود للعالم من خلال رؤية قد تبدو لهم شاملة، إلا أنها تكن فى الأغلب غير مكتملة الأركان أو ملائمة، تماما لكل الواقع المحيط بهم، إنما تمثل بُعدًا وحيدًا من أبعاد الواقع ككل. وهذا معناه أن للصورة أهمية أخرى في تلقي بعض جوانب الكون للقدرة على التخيل، ولذلك دائمًا ما يروادني هذا السؤال: ماذا لو كانت الحياة بدون صورة ؟!!
سيارة بالية مُبهمة الشكل بدون تدخل تشكيلي ولا أبعاد ولا لون، ملابس بدون أي تفاصيل أو خطوط، أغلفة كتب بيضاء لا تحمل إلا عنوان النص واسم كاتبه، جرائد خالية من أي رسم أو صورفقط كلمات متراصة مثل الحجارة مهما كانت كلمات إبداعية، سجادة صمّاء تفترش حجرة مكتبي بدون أي زخارف أو شكل أو تصميم،كيس من شرائح البطاطس مكتوب عليه فقط بطاطس شيبس مُقرمشة، ناهيك عن عدم وجود تلفاز أو سينما أو حتى مسرح،، لا صورة إذن لا جمال لا رسائل ولا معاني ولا حتى دلالات حسية. الصورة ليست للترفيه إنما ضرورة حتمية في الحياة لاستمرار التواصل البصري وإلا لماذا أنعم الله علينا بنعمة البصر ؟! أليس لنستمتع بجمال ما يحيط بنا ونتأمله؟
بدون صورة لا توجد ذاكرة ولا يوجد ماضٍ ولا يوجد حاضر وبالتالي لا مستقبل.الصور هي الارتدادات الأكثر عمقًا داخل أنفسنا، هي الصلة بالخبرات والتعبيرات الإنسانية، وأيضًا هي المكونة للمخزون الثقافي البصري لكل منا. وبدون بصيرة لا يوجد خيال ولا خبرات ولا إدراك.
……
الهوامش:
- القرآن الكريم.
- الحديث الشريف.
- محمد نور الدين أفاية، الصورة وأسئلة المواطنة، مقال بجريدة الإتحاد 13 أكتتوبر 2016م.
- نبيل علي، الثقافة العربية وعصر المعلومات، عالم المعرفة، الكويت، 2001م.
- سعدية محسن عايد، ثقافة الصورة ودورها في إثراء التذوق الفني لدى المتلقي، رسالة ماجستير، كلية التربية، جامعة أم القرى،2010م.
- شاكر عبد الحميد، الفنون البصرية وعبقرية الإدراك، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2008م.