اقتصاديات الطائرات الورقية
تابعت مداخلة الدكتور محمد معيط، وزير المالية، أمس، مع الإعلامي الكبير عمرو أديب، للحديث عن تعديلات قانوني الضريبة على الدخل ورسوم تنمية موارد الدولة، والتي استعرض خلالها الرسوم الجديدة على بعض السلع والخدمات وأيضا زيادة الإعفاءات الضريبية.
وفي الحقيقة، فإنني لم أهتم بما صرح به الوزير أو ما ساقه من تبريرات بهدف زيادة الرسوم، قدر اهتمامي بدلالة وما تعكسه هذه التصريحات عن المشهد الاقتصادي العام للدولة.. فالرجل تحدث بشكل سياسي لتبرير مناقلة ضريبية في صلب السياسة المالية، وبما أن هذا الحديث لا يقدم ولا يؤخر شيئا بالنسبة الواقع الاقتصادي، فهناك حاجة ماسة إلى تأصيل المشكلة بشكل دقيق.
تصريحات الوزير نقلت بلسان حال الوضع الاقتصادي الحالي، أنه يتعامل وكأن مصر ليس لديها حلولا إبداعية لتوليد نشاط اقتصادي حقيقي، ولا رشد لدراسة بنود الإنفاق وتطويعها مع مصادر الدخل والدين، في إشارة إلى الوضع المحزن الذي تُدار به المالية العامة للدولة والعملية الاقتصادية ككل، أو أنه يتعامل من مبدأ أن حلول مصر المُنتظرة، مقتصرة على تقليل الفيدرالي للفائدة، فنستطيع الاقتراض، أو أننا نطمئن مستثمري المحافظ المالية فيضعوا أموالهم عندنا فقط، وهو في نظري أشبه بالتعامل مع العملية الاقتصادية في مصر وكأنها طائرة ورقية تتحرك من الخارج وليس من الداخل، وأن هناك فكر متأصل لدى حكومتنا بأن مشاكل مصر خارجية فالحلول المنتظرة خارجية بالتبعية!
كما أن مشروع قانون الضريبة على الدخل، الذي دار الحديث حوله، هو مجرد محاولة للإبقاء على حصيلة الضريبة المتوقعة دون نقصان بعد تطبيق زيادة حد الإعفاء الضريبي، وهذا الأمر له معانٍ ودلالات كثيرة، أبرزها هو أننا نتبنى نظاما ماليا قائما على أساس أنه لن يتم تحقيق موارد ذاتية، إلا من خلال مناقلات داخلية، ومن خلال نفس الشرائح الدافعة للضرائب، بمبدأ “خد من هنا وحط هنا”.. وهي لا تعدو عن كونها محاولات مناورات ضريبية مستترة تحت عباءة عدالة اجتماعية، إلا أنها لا تسهم في زيادة موارد حقيقية بقدر ما هي محاولة لتسييس وضع مالي معقد ليبدو مقبولا.
وهذا الأمر بكل بساطة يمثل رد فعل طبيعيا جدا لعملية اقتصادية هشة، لا تترك للقائمين عليها إلا حلولا ضعيفة واعتمادية خارجية متنامية، كما أنه ناجم في الأساس عن ضعف المحرك الاقتصادي نفسه، على عكس الإنفاق الذي يرتفع بشكل مضطرد.
فلا توجد نية لتعظيم الدخل الضريبي عن طريق نشاط اقتصادي جديد، كما أن النية منعقدة تماما على عدم التراجع عن الإنفاق المتزايد، وعن استخدام تمويلات قصيرة الأجل في أمور طويلة الأجل.
صورة ميزان المدفوعات
والصورة المرفقة تستعرض عجز ميزان مدفوعات مصر في آخر 60 سنة، وهو بشكل مبسط الفارق بين الدولار الداخل للدولة والخارج منها.
الرسم البياني بالصورة يشير إلى أن ميزان المدفوعات المصري كان منضبطا تاريخيا، وحدثت أكبر أزمة عام 1989 لكن تم حلها بسبب حرب الخليج وما تبعها من إسقاط الديون، ثم استقرت الأمور نسبيا حتى 2011، حينما حدثت هزة جديدة بفضل قرارات محافظ البنك وقتها فاروق العقدة، فخرجت المليارات من الدولارات بأسعار صرف مدعومة، وبدأ الاحتياطي في التراجع إلا أن محدودية الإنفاق حجمت من تفحل الأزمة.
ولكن مع زيادة وتيرة الإنفاق حتى وصلنا في 2015 لنقطة عجز كبيرة وحدث بعدها تعويم 2016، وحتى هذا التاريخ ورغم عدم تحسن عجز ميزان المدفوعات، إلا أنه لم يشعر أحد بأن هناك مشكلة نظرا لانحسار التضخم، وهو ما لم يحدث في أزمتنا الحالية.
صورة الاستثمارات في محفظة الأوراق المالية
ففي هذه الفترة، كان هناك طوفان أموال ساخنة أحدثت تعادل في الموقف الدولاري والاحتياطي النقدي انتعش، إلى أن حدثت المشاكل الخارجية وهربت الأموال الساخنة وبقينا نحن نواجه أزمتنا بمفردنا.
إن معاملة الاقتصاد المصري، كمجرد شركة صرافة كبيرة كل خططها الاقتصادية مبنية على تحويلات دولار من مستثمري الأموال الساخنة والعاملين في الخارج وفقط، وهو أمر غير مستدام والتاريخ أثبت ذلك مرار وتكرارا.
وهذا الأمر يرجعنا لنفس النقطة.. الاقتصاد المصري اقتصاد تمويلي بجدارة وأي مشكلة خارجية لن نستطيع تحمل تبعاتها، فصار وضعنا كما ذكرنا أشبه بالطائرة الورقية أي تحرك فيها مبني على تغير في محيطها، دون أن يكون لما يحدث في داخلها أي دور.