توأمة الروح
"المرء على دين خليله".. كلمة لم أستوعب معناها إلا بعد تعرُّفي على عبد الرحمن بكر، كاتب ورسام الأطفال الشهير وعضو المجلس الأعلى للثقافة.. حكاياتي المبكرة معه لو قصصتُها ستدعو للاستغراب الشديد.
قبل أن أعرفه انطبق عليَّ الحديث النبوي، ولكن في الجانب السيئ وفي الزمن السيئ.. فترة الإعدادية.. كنت فيها نسخة من صلاح في فيلم "الناظر"، الذي انبهر بصياعة اللمبي؛ ومن ثم الانحراف والانجراف في تيار الشقاوة والعفرتة.. كان انجرافًا نفسيًّا أشد من تسونامي.. سأختصره في كلمة، وهي أن هوايتي كانت "الخناقة".. مع أي حد وبدون سبب.. كانت رغبة نفسية أستمتع بإشباعها.
بطل حكايتي حتى تلك اللحظة لم يظهر.. أول ظهور له كان في مدرسة أحمد عرابي الثانوية بالزقازيق، والزمان أول يوم في الدراسة.. لمحت في الفصل زميلًا قوي البنيان.. استفزَّني، فقررتُ أن أضربه.. هكذا بدون مقدمات. كان يجيد الرسم، وكنتُ وقتها موهوبًا فيه.. ولأنه ذكيٌّ وإنسان سَوِيٌّ؛ ألجأني إلى ميدان آخر غير قتال الشوارع، وهو قتال الريشة. قبلتُ التحدي، ولما رأى الشجرة التي رسمتُها بتفاصيل التفاصيل، أعجبَتْه جدًّا، ووكنت لأول مرة أمدُّ يدي للمصافحة لا الشجار.. وهكذا مرَّ أول يوم دون أن أشبع رغبتي في ضرب المفتول العضل المفتون بنفسه.
في اليوم الثاني أخبرَني أنه حكى لأبيه ما حدث، وأن أباه ضحك، وعقَّب بقوله: "نادر جدًّا لما بابا يبتسم، فما بالك إنه ضحك، وطلب يشوفك؟".
ولا يهمني.. ذهبت معه لأرى أباه، فوجدته من علماء الأزهر الشريف.. رجل له هيبة تخطف قلبك ليتعلق به.. ومن وقتها وحتى يومنا هذا وأنا محافظ على الصلاة، كما أنني تلقيت منه أحكام التلاوة على أصولها، وحفظت 13 جزءًا من القرآن، وأعطاني منهجيةَ فهمِ ديني فهمًا صحيحًا.
نعود لبطلنا.. رغم أن له أخًا توأمًا رسامًا مثله، إلا أنه حدثت بيني وبينه توأمة فنية.. كنت أكتب وهو يرسم، وطبعنا مجلة "المصري" (أبيض وأسود طبعًا) من مصروفنا، وأعجبَت مدير المدرسة، فتكفَّلَ بطباعة العدد الجديد، وحصدَت به المدرسة المركز الأول على مستوى الجمهورية في تنظيم المكتبات، وكافأنا مدير المدرسة بأن أنزلنا إلى المخزن؛ لنحمل ما شئنا من الكتب، ومنها مخطوطات ونوادر، وكانت أول مكتبة لي ولعبد الرحمن.
لا أبالغ إن قلت إننا ظللنا توأمين روحيًّا واجتماعيًّا وفنيًّا وفي كل شيء، حتى صارت أمه أمي وأبوه أبي وإخوته أحبَّ إخوتي.. كان أبوه الشيخ محمد سليم بكر عميد معهد فتيات أبو بكر يتابعنا، ويوجهنا بنظرة نقدية بديعة.. تحمسنا عن وعي هذه المرة.. كنت أكتب وهو يرسم، حتى أنهينا مرحلة الجامعة، وسافر هو للعمل رسام كاريكاتير بجريدة السياسة الكويتية فور خروج القوات العراقية من الكويت، وكنت أرسل إليه بعض الأفكار، ولكن دماغه كان أخصب مني في لفِّ الفكرة صح.
عندما انتهت غربته وعاد إليَّ، تلازمنا أكثر، ورسم لي أكثر من مائة وأربعين كتابًا للأطفال، وبرامج مالتي ميديا، وأغاني كرتون.
حكايتي الممتدة إلى يومنا هذا عمرها الآن يجاوز الـ 40 عامًا، وطوال تلك السنوات وانا أواصل السير على الطريق الذي وضع عبد الرحمن فيه قدمي؛ لأكون على دين خليلي.. الصلاة والعقل والثبات على المبدأ وامتلاك القوة الحقيقية في الإبداع بتطويره وفي العلم بالاجتهاد وفي التعامل بحكمة الاحتواء وفي الانفعال بالسيطرة على النفس وتحويله حماسًا إيجابيًّا للبناء والتغيير؛ لذا نجحت توأمتي مع عبد الرحمن بكر، وعتَّقَتها السنون رباطًا حميمًا ركاميًّا من الخبرة والاندماج الذي يستمد خلوده من الروح، وعظمته من الله، الذي نفخ فينا من روحه