راجعين
لم تكن نهاية 2019 رحيمة بالعالم، أو يمكن القول إنها على عكس السائد في النهايات الدرامية، اختارت أن تكون نهاية حزينة، هذا إن صح وصفها بالنهاية؛ في الواقع لقد كانت بداية نهاية.. نهاية كادت تفتك بالعالم وتبيد البشرية.
غيمة قاتمة، تجمعت فوق ووهان الصينية، زحفت منها إلى جيرانها بما تحمله من وباء مجهول صديقه العزل، فأصاب الله بها من شاء وصرفها عمن شاء، إلى أن وصلت مصرَنا مطلع 2020؛ ففرضت علينا ما كرهنا، وأغلقت في وجوهنا المساجد والكنائس، وخطفت منّا من خطفت، ناهيك عن حبسنا في بيوتنا، وتحميلنا فوق طاقتنا على كافة الأصعدة؛ لكني هنا أتكلم عن مداوة ألم واحد فقط بين كل هذه الآلام وهو "المساجد"؛ التي لم يكن ينفع معها إلا تقييد عملها، ولم يكن ينفع منّا إلا الامتثال لهذه القيود.
6 مايو 2022.. حين زالت الشمس عن كبد السماء، سمع المصريون البُشرى التي طال انتظارها، عامٌ جرّ عامًا في ذيله آخر من الصبر؛ حتى جاءتهم الأوقاف المصرية بـ النبأ العظيم: «عودة المساجد للعمل بكافة طاقتها الاستيعابية، وإقامة المقارئ القرآنية والدروس الدينية، وفتح مصليات السيدات، وإقامة حلقات الذِكر، وتكثيف الأنشطة التي كانت قائمة بالمساجد قبل الغلق»، الأخبار التي استقبلها المصريون بفرحة الفاتحين، أو العقيم الذي بُشر بالولد بعد صبر طويل؛ لتتوالى فيما بعدها تغذية المساجد بأنشطة لم نكن نعدها من قبل، منها مجالس الفقه والحديث، ومقارئ كبار القراء، التي سمعنها بقراءات مختلفة، ومجالس الإفتاء، والبرنامج الصيفي للطفل، والأمسيات الابتهالية والدينية، وغير ذلك مما لا يتسع المقام لذكره، وصولًا إلى اللحظات التي أكتب فيها هذه السطور.. بعدإعلان الأوقاف استعداداتها لاستقبال شهر رمضان المبارك 2023.
أود أن أخبركم أنني اخترت هذه المقدمة البعيدة زمنيًا لمقالي، فقط لأكشف لكم دوافعي لكتابة هذه السطور، فلم يكن في حسباني يومًا أن أجد نفسي منكبة على جهازي اللوحيّ لأشيد بعدة قرارات أصدرها فلان أو أعلنتها مؤسسة؛ ولكن ما لمستُه من ثراء في بيوت الله بعد أعوام عجاف، فرضها علينا "كورونا"؛ أعجزني عن الصمت؛ ولا آبه إن اتهمني البعض بالمجاملة والنفاق، لكن ما أعرفه أن منكر هذا الجمال الحاصل في المساجد خلال الأشهر الـ9 الأخيرة، جاحد، بل ومنكر الجمال المنتظر حصوله خلال الأشهر القادمة -وتحديدًا شهر رمضان 2023- أكثر جحودًا.
والله بعودة
«والله بعودة».. الجملة المعهودة التي نتغنى بها كل عامٍ ترحيبًا بالشهر الفضيل، والتي فقدت حماسها في السنوات الـ3 الأخيرة، واستحال لمعانها في العيون من لمعان الفرحة إلى لمعان الدمعة.. الدمعة التي كانت تولد في أعيننا مع كل أذان حين نسمع: "ألا صلّوا في بيوتكم، ألا صلّوا في رحالكم"، لكن استعدادات استقبال شهر رمضان هذا العام جاءت لتمسح على قلوبنا من كلِ هم أصابنا خلال الفترة الماضية.
السماح بالتهجد والاعتكاف بالمساجد، وإطلاق وقت صلاة التراويح دون تقييده بنصف ساعة -خلافًا لما عهدناه في زمن كورونا- مع ترك الأمر للمصلين؛ ليؤدوا صلاتهم كيفما شاؤوا، وإقامة مجالس الفقه ومجالس الحديث والإفتاء، وشرح الكتب الشرعية، وتفسير القرآن الكريم، وفتح المساجد طوال اليوم أمام المصلين، وعقد المقارئ القرآنية، فضلًا عن درسي العصر وما بعد التراويح يوميًا، وغير ذلك من الأنشطة المستحدثة، جميعها جاءت ضمن خطة الدكتور محمد مختار جمعة، وزير الأوقاف هذا العام، لاستقبال شهر رمضان المعظم؛ ليرجع لـ «والله بعودة» نصيبها المفقود من اسمها.
كل يوم شيخ جديد
ولعل برنامج صلاة التراويح في مسجد الحسين رضي الله عنه، رمضان المقبل، هو الأجمل على الإطلاق بين الاستعدادات التي أعلنتها الوزارة حتى الآن، هذا القرار البكر الذي أصدرته الأوقاف بشأن حشد جمع غير مسبوق من كبار القراء المصريين لإمامة الناس في صلاة التراويح بالحسين؛ ليتولى كل يوم قارئ مختلف إمامة المصلين، بحيث لا يتم تكرار أي قارئ مرتين على مدار الشهر، القرار الذي أثلج صدور محبي القرآن الكريم وعشاق دولة التلاوة.
وبالحديث عن مسجد الحسين رضي الله عنه، تجدر الإشارة إلى ثاني الأنشطة الجديدة التي من المقرر أن يتضمنها المسجد، وهو حشد أكثر من 50 عالمًا من كبار العلماء لإحياء الدروس والندوات وملتقى الفكر الإسلامي، فضلًا عن المقارئ القرآنية والأمسيات الابتهالية، الأنشطة عينها التي وجّه الرئيس السيسي قبل قليل بتعميمها على جميع مساجد الجمهورية خلال رمضان.
ختامًا -وإن كان الختام مؤقتًا-، نسأل الله تعالى أن يعمر بيوته في الأرض بذكره، وقلوب مرتاديها بخشيته، وأن يستعملنا جميعًا فيما ينفع الناس، وأن يدخلنا فيمن قال عنهم في كتابه: «إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ ۖ فَعَسَىٰ أُولَٰئِكَ أَن يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ».