النخبة الجديدة
نريدها أكثر إدراكًا واستيعابًا وعمقًا وفهمًا لشواغل وتحديات وتهديدات الوطن ونجاحاته وإنجازاته وانتصاراته.. لذلك من المهم بناء نخبة جديدة بدلًا من تلك المتهالكة والمتردية.. والمتنطعة والمزايدة والتي تسوق للسطحية وتلهث وراء أطماع ومكاسب ومغانم ذاتية وتهرول خارج الحدود إلى أحضان الطامعين في اختطاف دور وقوة مصر الناعمة.. النخبة السياسية والثقافية التي نريدها أكثر احتضانًا وحرصًا وفهمًا وعمقًا لمتطلبات وفلسفة الجمهورية الجديدة.. نخبة تقود ولا تخضع لإغراءات الخارج ومكايداته ومؤامراته الممولة.. موالية للوطن.. تستطيع أن تبنى وعيًا شاملًا وصياغة مشروع ثقافي في ظل محاولات الغزو والأفكار المستوردة.. تفهم أبعاد المشهد من مختلف الزوايا.. وليست منشغلة ومنغلقة على الذات.. تبحث عن زيادة الرصيد والحسابات ولا يمكن استئجارها لضرب الوطن.. أو كتابة رسائل خبيثة ضده.
على مدار 10 سنوات.. أثبتت التجربة أننا في حاجة شديدة إلى نخبة جديدة سياسيًا وثقافيًا.. بعد أن أصبحت هناك قناعة لدى الجميع أن قطاعًا كبيرًا من النخبة الحالية يعانى حالة من التغريب والانفصام عن الواقع.. ولم يفلح في إدراك المعطيات الجديدة على خريطة الوطن وناله مرض الانغلاق على الذات والنرجسية المفرطة والبحث عن مصالح ضيقة شخصية في المقام الأول من مكاسب ومغانم.. حيث انها مستغرقة في المادية.. تهرول بأسرع ما هو متوقع لأى مكاسب مادية خارج الحدود.. حتى لو كانت في إطار محاولات اختطاف قوى الوطن الناعمة.. وتستجيب لأى مغريات.. لكن الأخطر من ذلك انها نخبة غير موضوعية.. وغير مدركة لتحديات وتهديدات ومخاطر تواجه الوطن.. أو متطلبات عصر يشهد معطيات جديدة وسط زخم من النجاحات والإنجازات تجسد قدرة الوطن في هزيمة التحديات والتهديدات.. ناهيك عن معالجة أزمات واشكاليات 50 عامًا.. تزامنًا مع بناء الدولة الحديثة.. لذلك فالنخبة لم تستطع استيعاب رؤية الوطن.. أو اللحاق بسباقه مع الزمن أو حتى التصدي لمحاولات التوبير والتسطيح والتشتيت والغزو الثقافي.. والغباء السياسي في ظل حالة انفتاح غير مسبوق للعالم على بعضه البعض في زمن التكنولوجيا الحديثة ولم تفلح في مجابهة حملات التشكيك والافتراءات والأكاذيب واختطاف الهوية وتغيير مكوناتها.. باختصار قطاع كبير من النخبة الحالية وصل إلى مرحلة انتهاء الصلاحية.. لم تعد تصلح ولا تواكب الطفرات والمتغيرات.. ولم تستوعب الشكل والمضمون ولا حتى فلسفة الجمهورية الجديدة.
حوار الزميلة «جريدة الوطن» مع شباب الأحزاب وتنسيقية شباب الأحزاب وقد أكدوا فيه حاجة مصر إلى نخبة جديدة سياسيًا وثقافيًا تناسب الجمهورية الجديدة وتنمى الحياة الحزبية.. الحقيقة أغراني للكتابة فى هذا الشق.. خاصة أن تداعيات الأزمة الروسية- الأوكرانية كانت ومازالت كاشفة وفارقة فى تقييم النخبة المصرية وسبقتها أيضًا مرحلة ما بعد 2011.. والتي كشفت بما لا يدع مجالًا للشك هشاشة النخبة المصرية وكونها مندفعة إلى شعارات براقة على حساب فكرة الوطن والوطنية.. بل لم تتحسب وتحذر من شدة الاندفاع والتهور والانسياق وراء شعارات أو أجندات تهدد وجود وبقاء الوطن نفسه.
لم تستطع النخبة الثقافية ملء الفراغ أو مواكبة المعطيات الجديدة.. ومتطلبات الفترة الراهنة وانشغلت بالذات أكثر من الوطن.. ولم تستطع التفاعل والتعاطي مع مستجدات العصر ومعطياته لذلك نحتاج إلى بناء نخبة جديدة سياسيًا وفكريًا قادرة على صياغة مشروع وطني مواكب لحجم التطور غير المسبوق الذى تشهده مصر.. نخبة جديدة وطنية موضوعية تنحاز إلى الوطن متعففة ومترفعة عن الصغائر ومدركة لمحاولات الاختطاف تستطيع وضع سياق وصياغة جديدة أكثر مواكبة لمجتمع سياسي وثقافي.. يدرك.. نختلف في وجهات النظر ولا نختلف على الوطن.. نصطف حين يواجه تهديدات وندرك أن الوطن في حاجة شديدة إلى بناء وعى شديد الخصوصية.
الحوار جاء ثريًا.. ومتفائلًا بأحاديث مجموعة من الشباب الواعد.. يتحدث بطلاقة وفهم عن قضايا الوطن وتحدياته وهو أمر مبشر للغاية وقادر على بناء نخبة جديدة.. يعرف هؤلاء الشباب الذين انصهروا في بوتقة الوطن جمعهم كيان فريد هو «تنسيقية شباب الأحزاب» ربما يختلفون فى أفكارهم ورؤاهم السياسية.. لكنهم يتحاورون ويتناقشون بتحضر وفى النهاية لديهم آلية متفق عليها.. هذا الشباب استطاع ان يصل إلى عمق المجتمع حيث الجماهير ومعالجة حالة الانفصام والانفصال بين الشارع والأحزاب.. فقد رصدت من أحاديثهم انهم نجحوا فى تنظيم أكثر من 350 مؤتمرًا جماهيريًا فى كافة ربوع البلاد فى تلاحم يرصد مشاكل وآراء الناس فى مختلف المجالات والتخصصات.. وهو تشخيص حقيقى لمطالب الجماهير.. وتوثيقها وبناء رؤية لحلها وعلاجها أو دراسة مقترحاتهم النابعة عن تجربة من الواقع.. وهذا ما تحرص عليه القيادة السياسية وتوجه للاستماع إلى المواطنين ومعرفة انطباعاتهم وآرائهم ومطالبهم.. لذلك فهذا الأمر يعالج وبشكل مهم حالة ابتعاد الأحزاب عن الشارع.. لذلك أرى ان هؤلاء الشباب يشكلون حجر أساس النخبة الجديدة والتى يجب أن نعكف على بنائها وتشكيلها من جديد من خلال التنقيب عن الكوادر والعناصر وتحظى بتأهيل وتدريب مكثف وبشكل عصري حتى نستطيع بناء هذه النخبة المرتبطة بالوطن والملتحمة بقضاياه وتحدياته وشواغله.. وتلبى مطالب وحاجة الفترة الراهنة سياسيًا وثقافيًا واجتماعيًا وفكريًا وإبداعيًا حتى الوصول إلى الخارطة والصياغة المطلوبة لهذا العهد الذى يشهد طفرات وقفزات وإنجازات ونجاحات فريدة ومتغيرات مهمة.. لبناء وعى سياسي وثقافي يواجه محاولات التجريف والتبوير والاختطاف الممنهج والمخطط والمدفوع لقوة مصر الناعمة وتفريغ الهوية الوطنية من مضمونها الراسخ ومحاولات افقاد الشخصية المصرية الثقة في النفس.
لذلك نحن فى حاجة إلى نخبة يصدقها الناس ويثق فيها.. وفى إخلاصها الوطني لتحل محل نخبة منكوبة ومطعون فى توجهاتها.. فما بين هذا الذى يعمل على تخويف وافزاع الناس وآخر يحمل مضامين أجندات خارجية ومفردات تبدو براقة لكنها في الأصل خبيثة تخدم مصالح وأهدافًا غير مصرية.. موالية لأطراف خارجية تسعى لاستهداف الوطن.. لا أريد القول إننا أمام بعض من هذه النخبة ممن يعملون كالأجير.. لا يعرفون سوى المال والمكاسب والمغانم والأرصدة حتى لو كان المقابل العمل لصالح أجهزة مخابرات أجنبية.. تريد أن تصفى حسابات وتحقق أهدافًا وتعمل على مكايدات سياسية تستهدف مصر.
بالحديث عن النخبة الثقافية أجد ان قطاعًا غير قليل منها منشغل بالبحث عن الذات وما يشبعها من مصالح وشهوات وأموال ورغم غياب العمق والتسطح المفرط فى خطاباتها وأعمالها إلا أنها سريعة الهرولة إلى منصات غير مصرية أو مناسبات وحضور خارجي مدفوع الأجر وسخى العطاء وسواء عن إدراك أو عدم إدراك تجهل ان هذه المنصات والمناسبات «المصنعة» والمخلقة والتي يتم تجميعها عبر مكونات غير (محلية) أى صنعت خارج هذه الدول إلا أن النخب الثقافية والفنية شديدة الهرولة والانجذاب ليس من أجل حضور ثرى ثقافيًا وفنيًا أو الاستفادة المهنية والابداعية.. ولكن من أجل الجري واللهث وراء غزارة الأموال.. وربما هناك من يخبرني وهل هؤلاء ناقصين أموال ألا يكفى ما لديهم؟.. أقول إن هؤلاء لا يشبعون ولا يتعففون ولا يرتقون لمنزلة النخب الوطنية المدركة لخطورة ما يجرى فى فلك محاولات اختطاف قوة مصر الناعمة وهى محاولات فاشلة لن تفلح لكونها تفتقد لمقومات أساسية.. أبرزها «عقم» فى الجينات الثقافية والإبداعية والفنية.
من أهم مميزات شباب الأحزاب الذين تحدثوا للزميلة «جريدة الوطن» هو الحضور الطاغي والإلمام بشواغل وتحديات الوطن فلم تخل أحاديثهم من قضاياه.. سواء عن الحوار الوطني.. وأبرز أولوياته.. وأكدوا أن تطوير وتعزيز الصناعة الوطنية وزيادة نسبة المكون المحلى لجميع الصناعات للحد من حجم الواردات وتوفير العملة الصعبة التي يحتاجها الوطن.. بالإضافة إلى دعم المشروعات المتوسطة ومتناهية الصغر وتعزيز قدرات الدولة الإنتاجية.. والارتقاء بالإنتاج الزراعي كونه سلة مصر الغذائية وبالتالي وضعوا أيديهم على أهم القضايا المصرية التي يتناولها الحوار الوطني.
لم يفت شباب الأحزاب الحديث عن التحدي الأخطر الذى يواجه مصر وهو الزيادة السكانية.. وللأمانة لديهم إلمام بأبعادها.. فعلى سبيل المثال تأثير النمو السكاني على الرقعة الزراعية التي كانت في عهد محمد على باشا 2 مليون فدان مقابل 2 مليون نسمة مما يشير إلى وفرة الإنتاج مقابل التعداد السكاني ومصر اليوم تمتلك 9.6 مليون فدان مساحة الرقعة الزراعية.. فى مقابل أن تعداد السكان يزيد على الـ100 مليون نسمة مما يشير إلى أننا أمام خطر حقيقي يهددنا.. وهو ما تعيه الدولة المصرية جيدًا والتي تشهد أكبر عملية توسع زراعي فى تاريخها تنفيذا لرؤية الرئيس عبدالفتاح السيسى.
الحقيقة أنني اختلفت مع الشباب فى جزئية مهمة.. خاصة قضية تشجيع ممارسة العمل السياسي بالجامعة.. وتحديدًا أن هناك مطالبة بتعديل اللائحة الطلابية الخاصة باتحاد طلاب الجامعات والتي من شأنها وضع أطر وجسور تواصل ما بين شباب الأحزاب وتشجيعهم على المشاركة بالحياة السياسية والتجاوب مع الدولة ولكنني أرى أن الجامعات مكان للعلم وليس ممارسة السياسة.. فمن الممكن أن يكون لدى الجامعات تدريب وتأهيل على أصول وقواعد وأدبيات العمل السياسى من خلال ورش عمل.. والتدريب على صناعة القرار وتقديرات المواقف.. ومواجهة الأزمات.. وعمل الدوائر المستديرة ونماذج المحاكاة للمنظمات الأممية والعربية وتعلم آليات ومراحل اتخاذ القرار الصحيح.. والوعى بأبعاد الأمن القومي.. لكن اطلاق الحرية لممارسة العمل السياسي داخل الجامعات هذا عودة للخراب بعينه وفرصة ثمينة لتمدد الصراعات السياسية داخل الجامعة.. خاصة في حالة عدم وجود تدريب وتأهيل هؤلاء الطلاب.. بل الأخطر انه يسمح بعودة خفافيش الظلام من عناصر الإخوان المجرمين.. وربما تحت شعارات مختلفة وخادعة خاصة أن الجماعة مثل الأفعى تتلون وتتشكل طبقًا لاختلاف الواقع والمعطيات.. وتجيد فنون وألاعيب الخداع والتزييف.. لذلك فالجامعة مكان للعلم والتدريب والتأهيل على كيفية ممارسة السياسة وصنع رجل الدولة وصانع القرار وليست مكانًا لممارسة السياسة.. هذا هو اختلافي مع شباب الأحزاب أو من طالب بعودة وتشجيع ممارسة السياسة داخل أسوار الجامعة حتى لا نعود مرة أخرى إلى العهود والعقود الماضية التى تفشت فيها ظاهرة التطرف والتشدد وشغل جماعات التكفير مساحات داخل الجامعات والنقابات.
باختصار نحن فى حاجة بالفعل إلى نخبة جديدة سياسيًا وثقافيًا.. خاصة وانه الآن «نكبتنا فى نخبتنا».. وجزء من هذه النخبة القديمة يلهث وراء المصالح والمكاسب والأموال أو يستسلم لأجندات ومكايدات سياسية خارجية تسعى للطعن في الوطن.. أو نخبة مغيبة ومنفصلة عن الواقع.. وغير ملمة بمتطلبات الوطن وتحدياته.. تسعى للظهور والمتاجرة والمزايدة والتنظير دون فهم وعمق حقيقي يستوعب حالة الوطن.. جهلت بانتصاراته وإنجازاته ونجاحاته وفشلت فى صياغة عقد سياسى وثقافي يدعم مسيرة وطن يقوده قائد عظيم حقق لمصر ما لم يسبقه إليه أي رئيس سابق.. ولم يتوقف هؤلاء من النخب القابعة فى أبراجها العاجية أمام ما شهدته مصر من تحديات وتهديدات ومخاطر.. وكيف عبرها الوطن بثبات وثقة وقدرة فريدة.. ولم ينشغل هؤلاء ولم يفهموا حتمية بناء الوطن وأولوياته وما عانى منه المصريون على مدار 50 عامًا وبالتالي الالتفاف والدعم السياسي والثقافي حول المشروع الوطنى لبناء الدولة الحديثة.. ولم نجد ذلك الاهتمام والانشغال سوى من الإعلام الوطني الذى تخندق فى خندق الوطن ودافع عن وجوده.. وحقه فى التقدم ومجابهة حملات الأكاذيب والتشكيك والتزييف والتشويه فالنخبة القديمة أو تحديدًا جزء منها شعارهم «نكسب أو مش هنلعب» براجماتية عفنة.. ليس فيها عطاء أو تضحيات أو تفان فى خدمة الوطن أو حتى الابداع الذى يتشدقون به ويرفعون شعاراته ويستظلون بمظلته.. مفرداتهم فارقت الواقع.. وغابت عن اهتمامات الجماهير.. فأصبحوا يلهثون وراء نزوات وشهوات المال والكسب حتى ولو على حساب المبادئ والقيم.
نريد نخبة أكثر عمقًا ونزاهة ومصداقية ووطنية شديدة الارتباط بمصر وأكثر استيعابًا لمتطلبات انتقالها للجمهورية الجديدة.. وادراك قيمة ما حدث فى مصر منذ 2013 سواء معركتي الإنقاذ والإنجاز.. وهو أمر جدير بالتوقف عنده.. شديد الحماس والشجاعة في التصدي لحملات ومحاولات التزييف والتشويه والتخويف والتشكيك.. عازمة على مجابهة محاولات الاختطاف الممول والممنهج لقوة مصر الناعمة في تعظيم القوة المصرية.. والتركيز على خصوصيتها واستعادة زخمها وثرائها وتنوعها وعمقها الحضاري الضارب في جذور التاريخ ساعتها لن تقوى أى قوة مادية مصطنعة تشبه المسخ على الاقتراب أو التفكير في محاولات الاختطاف أو محاولة شغل دور مصر لأن هذا الدور العظيم والمترسخ أكبر من قدرتهم المتدنية والمتواضعة والبدائية.