مخلوق بنكهة مواطن
في ظل تفشِّي المنتج الغذائي المصنع بنكهة الطعم الطبيعي، طبيعي أن نجد جيلًا بطعم الشباب وذكورًا بطعم الآباء، وإناثًا بطعم الأمهات، وخِلَقًا بطعم الإعلاميين، ومومياوات بطعم النجمات، وعاهات بطعم التنويريين، ومشايخ بطعم الأئمة، وموظفين بطعم المسئولين. والكارثة في أمرين: الأول شحُّ المنتج الطبيعي، والثاني غلاء الصناعي، حتى إنه يتصدر التريند والمشهد عامةً. والأكرثُ أنك لو جرَّبْتَ مرة أن تحضر لأبنائك المذاق الأصلي للطعام كمثال، فإنهم يمجُّونه، ولا يستسيغونه؛ لأن أذواقهم ومذاقاتهم تبرمجت على المُصنَّع.
وفي المجال الوطني تجد أصنافًا عديدة من أنواع الطعوم الصناعية تحورت وتحولت؛ لتندسَّ في صفوف الوطنيين الطبيعيين.. همل وهمج بمكسبات طعم نضالية، وCV بطولاتهم حناجر تسخينية وخناجر تنظيرية.
أما رسل التوعية والواقعية من دخلاء الفن، فتعجب أن الجميع يعلم أن السوبر ستار فلانًا صوته نعير، وأن البرامج والتطبيقات هي التي تقدم المنتج الصوتي الذي ينبهرون به، ورغم ذلك يتهافتون عليه، ويتضاعف إعجابك عندما ترى الغالبية من مهاجميه يتسابقون على تخطُّف أخباره وآخر إطلالاته.
وفي التطبيقات الاجتماعية للنكهات الصناعية نرى العجائب من ذلك الشاب، الذي يحفظ تفاصيل فتاة صَمّ، ويعلم أن سِحْنَتها الحقيقية متخفية خلف الفلاتر أو الماكياجات، ورغم ذلك يذهلك بازبهلاله بها، وركضه وراءها ليتزوجها بشروطها، هذا إن تكرمت بالقبول.
وليس الأمر حديث عهد ولا حصريًّا على الجيل الحالي، فقبل اختراع الفلاتر حضرتُ مثالًا لذيذًا لمطلقة، شكلها تحت العادي بدرجتين، كانت طالبة بالجامعة المفتوحة، وقررت قبل توديع الدراسة والحصول على الشهادة أن تحصل معها على عريس من الزملاء، فانبثق عقلها الأنثوي عن فكرة تسويقية رائجة، وهي لبس النقاب، فاكتشف زميل أن عينيها جميلتان، وبالفعل تم مرادها.
نحن شعب مثير للذهول ومعجز للمنطق.. تاريخنا منذ ولادته وإلى أن يشاء الله لديه شهادات موثقة ومكررة، ومنها أن المعنى النفسي للحريات هو الانفلات من كل شيء، والشواهد ما أكثرها! وأقربها ما شهدناه بعد أحداث 25 يناير، والتي لم تهدأ إلا بعد التحول إلى فلسفة العمل الطبيعي لا الكلام الناشطي الحقوقي بمكسبات طعم النضال.
وفي واقعنا الحالي نجد النموذج الأمثل للانضباط، وهو مترو الأنفاق، والذي ترى فيه نفس المواطن الصناعي وقد تحوَّل بقدرة قادر إلى نموذج فريد، طبخته ثقافة المحاسبة على الخطأ. ولكن هذا لا يمنع أنه بين فترة وأخرى ينطُّ عفريت العلبة من الناشطين الأخلاقيين والاجتماعيين لكسر رتابة الانضباط وإحداث ديفوهات وعاهات تأسيسية حركية.
سلُّوا أنفسكم في هذه الفترة إلى أن تكتمل دورة التاريخ الطبيعية الحتمية لا الطعوم الصناعية، وهي من الدورات الحصرية بنا، والتي طيَّرت دماغ التاريخ، ففي كل مرة نهبط ونهبط ونهبط، يفاجأ العالم بتجمُّع وتراكُم هبوطنا؛ لِيتكتَّل طاقة انتفاضة ترفعنا فوق الأمم.
أتدرون لماذا؟ لأن الشعب المصري جبل رسوبي، كلما دككْتَه، تداخلَت ذراته، وتماسكت، وتلاحمت، وتمدد ذلك الجبل عرضًا، وارتفع طولًا، حتى تشق قمته السحاب الثقال، فيجمع بين رسوخ الجبال وشموخ السحاب.. ذلك السحاب الذي يؤلف الله بينه على تنوعه، ثم يجعله جبالًا رُكامية؛ لتروي الأرض بماء الحياة العذب الفرات الخالي من الملوحة والشوائب والجراثيم. هذا ليس كلامي.. هذا هو ما أثبته ويثبته التاريخ عن مصر التي وُجِدَت، ثم أنجبَتْه.