ما هو الفيلم الوثائقي؟ أو من هم عشاق ليلى الوهميون؟
ككل المفاهيم في عالم الوفرة والإتاحة، بات تعريف "الفيلم الوثائقي" مسألة تحتاج لإعادة تعريف في حد ذاتها. وكما قيل في الحكمة العربية القديمة "إذا ازدحم الجواب.. خفي الصواب".
فمن بين مقتنع بأن التقرير التليفزيوني إذا طالت مدته تحول -بقدرة قادر- إلى فيلم وثائقي، وبين مقتنع بأن إيراد آراء المتخصصين تباعا، بينما يفصل قول ضيف عن غيره تعليقُ صوتي رصين (أو يحاول أو ينتحل هذا)، وقد سجل مقابلات هؤلاء المتخصصين وفق نسق التصوير المتبع عادة في الأفلام الوثائقية، فإن هذا الادعاء كفيل بتحويل هذا التيه التليفزيوني إلى فيلم وثائقي.
المسألة تذكرني- وخلفيتي صحفية بالأساس- بموضة "التحقيق الاستقصائي" الذي ضرب أركان الإقليم منذ عشر سنوات تقريبا، وبات الجميع متخصصا في التحقيقات الاستقصائية أو يدعي قدرة عليها أو يلقن تدريبا حول فنونها.
بينما السؤال الأكثر إلحاحًا لا يجد جوابًا مرضيًا: ما هو الفارق بين التحقيق الاستقصائي وغير الاستقصائي؟
إلى أن توارت الكلمة تماما اليوم، واختفى مُدرِّبوها، وذاب ممارسوها.. وباتت كالغول والعنقاء والخل الوفي.
الفيلم الوثائقي مثل التحقيق الاستقصائي.. له رونق خاص (حين تضم نفسك لزمرة صُناعه).
تخيل أن تقول أنا صانع أفلام وثائقية.. أو أنا محقق استقصائي.. أو -ياللهول!- أنا محقق وثائقي استقصائي! شيء مدهش.. تبدو كما لو كنت خارجا لتوك من مختبر "سيرن" لفيزياء الجسيمات.
الفيلم الوثائقي له تعريفه الواضح، وكود تنفيذه المتفق عليه، ولا أعيد اختراع العجلة، ولا أدعي عبقرية في تعريف ما هو معرف بالفعل وما هو مستقر.. لكن التشويش والتشغيب، يقتضي أحيانا هذا التأكيد على البديهيات وإعادة تذكرها وتذكيرها.
وإذ أعمل مديرًا لنحو 4 أو 5 سنوات لوحدة الأفلام الوثائقية بالشركة المتحدة، حيث أنتجنا عشرات الأفلام ما بين التاريخي والسياسي والفني والرياضي والثقافي، وحيث عملت من قبل لصالح قنوات عربية كاتبا أو معدا أو معالجا لأفكار أفلام وثائقية، فإنني سأدعي لنفسي شيئا من المعرفة وطرفا من الخبرة ونذرا يسيرا من الدراية بهذه الصناعة.
لا أجرد غيري من هذه الخبرة، ولا أدعي لنفسي تفردا، ولا نفترض أية كهانة في صناعة الفيلم الوثائقي.. فهي ككل أطياف وفنون الإعلام.. مسألة متاحة للجميع، ويفترض بكثيرين إجادتها، إذ إنها بنت قماشة واحدة، تتعدد سُبل حياكتها أثوابا فأثوابا.
الخبر والتقرير والحوار والتحليل والفيتشر والتعليق.. كلها أطياف تفننت في معالجة الحدث وفي إيراد المعلومة وفي إبداع المعرفة.
أنا هنا أنافح عن المعيار وأدافع عن "التعريف" وأسوق نفسي وغيري محتكما إلى "المسطرة".. في ظل الإصرار العمدي على خلط الأنساب، ودعوة أبناء إلى غير آبائهم بما هو أبعد عن التقوى المهنية!
تعريف لم أبتكره من تلقاء نفسي، ولكنه ابن التجربة العريضة لعشرات السنين حول العالم، وقد أنتج سدنة الإعلام آلاف الأفلام الوثائقية في كل شيء وحول كل موضوع تقريبا!
"الفيلم الوثائقي".. كلمة تقتضي وجود "فيلم" ووجود "وثيقة".. هذا بادئ ذي بدء!
الفيلم كلمة فنية، لها مدلولات تطورت كثيرا واستفادت من السينما و"علومها"، وارتكزت على فنون الحكي وعلى البنية الروائية المستقرة لأي قصة جيدة حول العالم من حكايا حكماء سور الصين العظيم وحتى حواديت الجدات المسنات في حضارة الإنكا.. وتعبر في نهاية المطاف عن انحياز للمستقر فنيا فيما يخص "حكي حكاية".. من مبتدأ ومختتم، وذُرى ترتفع وتنخفض كمعزوفة موسيقية، تشد الأبصار وتنعش العقول.. وتتفنن في إيراد المعلومة.
"الفيلم" كلمة لها انصرافات تتراوح بين السينمائي والروائي.. بما يجعل التقرير الطويل، أو التعليق الصوتي المصاحب للصورة والذي يسير في منحنى خطي شاحب وهزيل خارجا عن تصنيف "فيلم".
و"الوثائقي" تفترض وجود وثيقة.. بالصورة أو الورقة المكتوبة أو شاهد العيان أو المعنى الملتئم من أشتات الكتب والمراجع والمذكرات والمعلومات.
صانع الفيلم الوثائقي.. يبحث عن المعلومات غير المطروقة، ينقب عن التفاصيل المنزوية، ويتقن فهم موقعها من الخطوط العريضة.. وأين هي من المرويات الأشهر في هذا الصدد.
ثم يتقن نسج كل هذا في إيقاع أخاذ!
الفيلم الوثائقي يصلح للتنقيب في الماضي ولقراءة الواقع ولاستشراف المستقبل.. لكنه في الأزمنة الثلاثة يتحرك بأدوات لا غنى عنها لاستيفاء "الحالة".
أتذكر مرارا وتكرارا ونحن نبحث في الأرشيف البريطاني عن وثائق تخرج للعلن للمرة الأولى، أو نترجم وثائق مسربة من الاستخبارات المركزية الأمريكية في هذا الكتاب أو ذاك المرجع.
أتذكر كثيرا من قضايا الاغتيالات والإرهاب من الخمسينيات إلى اليوم، ونحن نقوم بفرز وفصل المتهمين عن المدعين عن القضاة عن المحامين، وكيف تتلاقى وتتضارب سردياتهم.. وتحت أي سماء تفاعل أربعتهم مع بعضهم البعض.
أتذكر هذه التسجيلات النادرة ونحن ننافح لتطعيم الأفلام بها، أو هذه الوثيقة الخطية التي تخرج للعلن للمرة الأولى، أو ندقق حول هذا المقال المنشور في أربعينيات القرن الماضي، ولو صحت نسبته لصاحبه.. لتغيرت تصوراتنا بعض الشيء أو كثيرة عن الحقيقة؟
صانع الفيلم الوثائقي يطارد الحقيقة ويتعقبها ويبحث عن رواتها ويدقق في ملابسات الظروف التي أفرزت ما يسعى لتوثيقه.
يتكون لديه مع الوقت دراية بالتاريخ ومصادره، بالسيناريوهات المرجحة والسيناريوهات المستبعدة.. وفارقها عن السيناريوهات الأكثر ذيوعا!
حتى حين يوثق صانع الأفلام الوثائقية حدثا آنيًّا، تنجلي قدرته في انتقاء الضيوف وفهم المعلومات.. واستنباط الخيط الفلسفي الناظم للأخبار والتعليقات والشائعات الخاصة بالحدث.
صانع الفيلم الوثائقي في حرب مستمرة لاستيفاء الحقيقة.. للملمة أجزاء المشهد.. لفهم قيمة الوثيقة.. سواء كانت صورة أو تسجيل أو ورقة خطية أو شهادة طرف أصيل في القصة محل التوثيق.
حتى في الأفلام العملاقة التي اعتمدتها هيئة الإذاعة البريطانية وغيرها من كبرى مؤسسات صناعة الفيلم الوثائقي حول العالم، وارتكزت على تعليق صوتي يصاحب صورة.. كانت الصورة وثيقة.. والتعليق الصوتي معلومة وتحليلا ترتقي لدرجة وثيقة معرفية جديدة!
وجبة معرفية مكتملة، لا يغني عنها تعليق صوتي بليغ لا يلبي فهما ولا يجاوب سؤالا، بمقدار ما يدغدغ حواسا.. أُرهقت من فرط التشوش!
كلما سألني أحدهم عن الفيلم الوثائقي وصناعته، سواء من الزملاء الأفاضل أو من أساتذتنا الكبار أو من طلاب الإعلام، وقد بات السؤال متكررا في الشهور الأخيرة إلى حد لا يوصف، أكتب هذا المقال بينما أتذكر قول الشاعر:
وكلٌّ يدّعي وصْلًا بليلى.. وليلى لا تقرُّ له بذاك!