الأربعاء 27 نوفمبر 2024
More forecasts: Wetter 4 wochen
رئيس التحرير
محمود المملوك
أخبار
حوادث
رياضة
فن
سياسة
اقتصاد
محافظات

أنا ابن الحكماء القدماء 1

الثلاثاء 26/أبريل/2022 - 03:52 م

إن جوفي يضيق بما فيه، وإن قلبي ينطق. 
هناك صدع في السد، والمياه تندفع منه
لذلك افتح فمي لأتكلم. 
ليس هناك من صامت إلا وقد انطقته.
ليس هناك من نائم إلا وقد أيقظته.
وليس هناك من جاهل إلا وقد جعلت منه حكيمًا.
أقم العدل من أجل الإله الذي أصبح عدله قانونًا للعدل؛ فالعدل للخلود، وهو يهبط مع صاحبه إلى القبر، حينما يُلف في كفنه، ويوضع في التراب، فلا يمُحى اسمه من الأرض، بل يُذكر لأنه أقام العدل، وذلك هو شرع الإله.

 

هذه كلمات في قمة السمو والحكمة، جاءت على لسان جدنا الفلاح الفصيح الذي عاش في القرن الثالث والعشرين قبل الميلاد بالقرب من مدينة أهناسيا بمحافظة المنيا، التي كانت عاصمة للأقليم الثامن عشر من أقاليم مصر العليا، وقد حفظتها لنا البردية الشهيرة التي تُعرف باسم بردية الفلاح الفصيح.

 

وهي كلمات حكيمة جليلة، تُشعر كل مصري أصيل بعظمة التاريخ الحضاري الذي يحمله على ظهره، وتجعله يهتف من كل قلبه قائلًا بفخر: أنا ابن الحكماء القدماء.

 

تتضمن هذه بردية للفلاح الفصيح التي نجهل اسم مؤلفها، نص المُرافعة التي قدمها أحد الفلاحين المصريين البسطاء للحاكم أو مدير البيت العظيم، صارخًا ومتألمًا من ظلم موظفي الحاكم، ومطالبًا إياه بتوخي الحذر، وإقامة العدل في الأرض، وإصلاح الأوضاع، ورد المظالم، وتحمل المسؤولية عن سوء تدبير وسلوك رجاله، حفاظًا على السلام الاجتماعي ووحدة واستقرار الوطن، وخوفًا على نفسه من تحمل مسؤولية وأخطاء رجاله في الدنيا والأخرة.

 

وقد قدم جدنا الفلاح الفصيح مرافعته بشجاعة منقطة النظير دون خوف أو تردد، لأنه كان مسكونًا بوصية أخلاقية جاءت على لسان الإله رع تقول: تكلم الصدق، وأفعل الصدق أو الحق لأنه عظيم، وأنه قوي، وأنه دائم.

 

ولهذا قال الفلاح الفصيح مخاطبًا الحاكم:

أيها الحاكم ﻻ تكن كالسيل يجرف من يشكو. 
أيها الحاكم ﻋﻠﻰ كل من فنى ومنى لم يفن
إذا ذهبت إلى بحر العدل فإن الهواء لن يمزق قاعك
ولن يتباطأ ﻗﺎربك 
ولن تكسر لك مرسى
ولن يحملك التيار بعيدًا
ولن ترى وجهًا مرتاعًا
ذك ﻷنك ﺃﺏ لليتيم 
ﻭﺯﻭﺝ للأرملة
ﻭﺃﺥ للمنبوذ
ﻭﺭﺍﻉ لمن ﻻ ﺃﻡ له. 
دﻋﻨﻰ أﺭﻓﻊ اسمك ﻓﻰ هذه الأرض فوق كل ﻗﺎنون عادل
أيها الحاكم المنزه عن الجشع
الخالي من الخوف
يا من تُحطم الظلم ﻭتُقيم العدل
استجب لصيحتي عندما ينطق ﻓﻤﻲ
خلصني من شقائي
أنظر ﺇلي أني مثقل بالهموم 
انصفني لأني تائه.
كل عون للإنسان هو منك
فأنت كالفيضان الغامر
كالنيل الذي يُكسب الحقول خضرة
ﻭيخضب ﺍﻻﺭاضي القاحلة 
أقضي ﻋﻠﻰ السارق 
أحمي التعيس
ﻻ تكن كالسيل يجرف من يشكو
أحذر فإن الحياة ﺍلآخرة تدنو
وأعمل بالمثل الذي يقول: ﺇﻗﺎمة العدل كالتنفس.

ويُلاحظ في تلك المرافعة النادرة - إلى جانب شجاعة وبلاغة صاحبها - أنها تُركز على المسؤولية الأخلاقية للحاكم، وتربط مصيره في الحياة الأخرى بقيامة بواجبه بعدل  تجاه الناس في الحياة الدنيا.

كما يُلاحظ أيضًا أن قائلها تجاوز مظلمته الخاصة وشأنه الشخصي، ليصبح مصلحًا اجتماعيًا وسياسيًا، وقد وجد أن واجبه الأخلاقي والوطني يُحتم عليه أن يُقدم النصيحة للحاكم حول صورة الرجال الذين يأمل أن يراهم قائمين بأعباء الحكومة والإدارة في مصر.

 

وقد ذكر لنا جيمس هنري برستيد في كتابة الرائع فجر الضمير أن جهود الفلاح الفصيح وغيره من  المصلحيين السياسيين والاجتماعيين المصريين في تلك الفترة لم تذهب سُدى؛ فقد استمع الحكام لهم، وتحاورا معهم، فظهر على أرض مصر جيل جديد من رجال الإدارة والموظفين الرسميين جسدوا بحياتهم وقناعتهم النموذج الكامل لرجل الدولة العادل.

ويُعطي جيمس هنري برستيد مثالًا على ذلك، هو الأمير أميني رئيس الحكومة الإقطاعية في منطقة بني حسن، الذي كشف قبره  عن أثر جليل القدر في التاريخ الاجتماعي والإداري  لمصر، من خلال ما كتبه الأمير أميني في نقش على باب مقبرته، قال فيه على لسانه:

لا توجد بنت مواطن قد عبثت بها.
ولا أرملة عذبتها.
ولا فلاح طردته.
ولا راع أقصيته.
ولا رئيس خمسة سلبته رجاله مقابل ضرائب لم تسدد.
ولا يوجد بائس بين عشيرتي.
ولا جائع في زمني.
وقد أعطيت الأرملة مثل ذات البعل.
ولم أرفع الرجل العظيم فوق الرجل الحقير في أي شيء أعطيته.
 
وقد أشار برستيد إلى شيوع تلك القناعات لدى حكام المقاطعات الأخرى، بما يُثبت أنها كانت توجيهًا عامُا من الحاكم  رأس السلطة، وكانت أخلاقًا شائعة عند رجال الدولة.

ويُعطي جيمس هنري برستيد، مثالًا إضافيًا على عدالة وإخلاص رجال الدولة في تلك الفترة، من خلال النقوش التي وجدت على محاجر المرمر في حتنوب، التي تصف الحاكم في تلك المنطقة، فتقول عنه:

كان رجل أنقذ الأرملة، وواسى المُتألم، ودفن المُسن، وأطعم الطفل، وعال كل مدينته في زمن الجدب. وهو الذي أطعمها في وقت القحط، وهو الذي زودها بسخاء بلا تمييز، فكان عظماؤها مثل أصاغرها.

تابع مواقعنا