فرضيات وعلاقات.. في الفنّ والتَّلقي
لوحة (فردوسٌ يرقص) للفنان سعد علي* نموذجًا.
( المشي في الألوان )
_لا يمكن لإنسان مهما كانت ثقافته أن يدرك شيئًا أو حدثًا لم يجربه ولم يعشه، ولا يعني هذا أنني أقلل من شأن الثقافة والمعرفة وفائدتهما والمتعة المترتبة عليهما، لكنني بكل بساطة أفرد ظلالي على العالم من بداية وعيي به، إنني أجرِّبُهُ كل صباح ومساء وأمنحه الفرصة كاملة ليجربني..
لا انتظر وحيًّا ولا أترجَّى حالةَ إلهام، إنني أذهب بثقة واندفاعٍ متناهيين أذهب إلى الآلهة وأطرح أسئلتي..
على كلٍّ ثمة طريق تعلن عن نفسها وتلوحُ من بعيد، ثمة غموض يسكنها وليته يدوم هذا الغموض الآسر. ثمة ما يشبه النداء وما يشبه رجع الصدى. ثمة حنين مجهول إلى أبدٍ مجهول -. ثمة ما يمكن أن نصفه بأنه فني. ثمة ما يؤكد امتياز الحالة واختلافها وعلوّها الإنساني الكاشف. ثمة ما يوسع نهمي ويزيد من سرعة تياري. ثمة ما أود التخلص منه، ما أودُّ لو ألقيه كما يلقي النيلُ طَمْيَهُ على ضفتيه فتخضر الصحراءُ وينام أبي سعيدا في قبره الفرعوني.
والحديث هنا ليس موجها للإنسان العادي الذي يرى في نفسه مجرد ثمرة في الحقل وإنما موجه للإنسان الذي يرى في نفسه الحقل ذاته.
_ وهذه نظرة لروح الفن وأدواته وأحواله تحاول تفسير العلاقة الأزلية في ثوبيها المعقد والبسيط بين الفنان والجمهور وبين الأثر الفني والمتلقي وتسعى إلى أن تكونَ مدخلا لقراءة الفن بكل أنواعه.
وإننا لن نستطيع أن ننتج فنا أصيلا ما لم نفهم العلاقة بيننا وبين المتلقي، إننا لن ننجح في عزلتنا الفنية إلا بالقدر الذي نكون فيه متشبعين وممتلئين بهذا المتلقي أي بواقعه وأحلامه وآماله وآلامه مهما بعدت بيننا المسافات وحجبتنا الحدود والجغرافيا وجوازات السفر.. كاشفين له عن نفسه وعن رؤية جمالية وممكنةٍ للحاضر والمستقبل، وفي المقابل لن نكون منصفين كمجمتع أو جمهور إذا أردنا لهذا الفنان لونا محددًا أو ثوبا معينا، إننا نخطئ كثيرا حين نصنع أطرا وبراويز ونضع فيها الفنان مطالبينه ألا يخرج عنها وسواء في ذلك أكان البروازا لقديس أو لشيطان فإذا قاوم وخرج عنها صببنا عليه جام غضبنا وسخريتنا.
..ومثلما يولد العالم من رحم الصراع بين قوى الطبيعة والإنسان من جهة وبين الإنسان والإنسان من جهة اخرى، يولد الفن بتعبير الدكتور تليمة "١" من رحم الواقع ومن صراع الفنان مع هذا الواقع بكل ما فيه، ومن هنا كانت الحاجة إلى أن تكون علاقة الفنان بالجمهور شبيهة بالشهيق والزفير أو بحركة المدّ والجزر (إننا موجاتٌ من ذات البحر تحت سماء واحدة)"٢" بحيث تمنحه الشعور بالحرية وتمنكه من تأمل ذاته وفهمها والتصالح مع تناقضاتها وصراعها المستمر، والأخذ والرد وفهم دوره في المجتمع والعالم، وبالتالي من التعبير عن قضايا وهموم هذا المجتمع وذلك العالم، وفي الوقت نفسه تطرح للمتلقي مساحاتٍ وأسبابا مشتركةً بينه وبين العمل تُأهّلُهُ للاستقبال والتلقي وكأن جزءا غامضا وعميقا كان غائبا داخله بدأ يحضر ويتضح وينكشف رويدًا رويدًا كلما انْسجم واسغرق في تأمل العمل.
_ وبينما كنَّا من تراب وماء ولَوْنٍ، من نفْخَةِ نَفَسٍ صادقةٍ، ومن كلمةٍ منتقاةٍ ومُلقاةٍ بعناية، كم أعجبتنا اللوحةُ وأسَرَتْنا الكلمةُ وكم وكم شَعرنا بالعناية والنَّغَم، فلا اللون ينفدُ ولا الكلمة تجِفُّ ولا العناية تغفلُ أو يزولُ الأثر.
..أثر حبيبتي الدائم، موسيقى ألف ليلة وليلة لكورسكوف، ولوحة (الفردوس الراقص) لسعد علي، وقصيدتي التي تسكن بالي دائما، أوراقٌ طازجةٌ لم تمسَّ، وقلمٌ شغوفٌ متحفزٌ كالحصان لحمل كلماتي، ومؤونةٌ ودخانٌ يكفيان ثلاث ليال سويًّا..
أتمدَّدُ وأتقلبُ من جنْبٍ لآخر. استقرُّ للحظةٍ، وأُصَفِّرُ كالحُوتِ الأزرقِ حين ينادي أنثاه. تعلو الموسيقى وتملأُ المكانَ، وتغسل روحي والسقفَ والحوائطَ وتنفضُ سُهْدَ الأريكة، تمسحُ قلقَ الستارة، وتُمَهِدُ الليلَ معي لمشاهدة هذه الرقصة أقصد اللوحة وتلقي هذا العمل.
أعتدلُ في جلستي. أنصت أكثر لذاتي، أحاول فهم الحالة كلها الموسيقى واللوحة والقصيدة التي تسكن بالي.. أتحسس مسيرة الصراع بين الثلاثة إلى أن يتناغموا ويَطيبُ لهُمُ المقام معا هكذا في رقصة دائمة وحنونة.
وأفكرُ.. الموسيقى ليست بعيدة عن اللوحة وهما معا ليسا بعيدتين عني كمتلقٍ هنا وعن أحلام يقظتي ومنامي.
تختفي الموسيقى ببُطءٍ وهدوءٍ ويبقى أثرها الذي يشبه أثر المحبوب قليلا طبعا.
اللوحة أمامي أو بمعنى أدق أنا في اللوحة، تغرقُ عينايَ المفتوحتان في بحر الألوان المختلط المحتفل السَّاهي، ذراعاي تحتضنان وتبتلعان المشهد. وقدمايَ تتحسَّسُان موقعهما في الريح وترتجلان الرقصةَ والخطوات، وحواسي هائمة منتبهةٌ تلقائيٌّة معًا..،
..أمشي في اللوحة وأفكر..
"أليست الفرضيات كثيرة هنا، ألسنا نبحث عن دلالات متعددة للصيغة الواحدة، أولسنا مختلفين حقا ومتمايزين ومتنافرين ومتناغمين.. إذا كانت الفرضياتُ كثيرةً والدلالاتُ تتعددُ بتعدُّدِ السياقات والظروف. فإنها أبدا لن تستوي هذه الفرضيات جميعًا على درجة واحدة، كما أنَّ كثرة هذه الدلالات لا تعني بالضرورة نجاح العمل أي عمل.
إنما تصبح الفرضية الأكثر تمايزا وصدقا هي الفرضيةُ التي تسعى إلى الاقتراب من روح العمل ومحاولة قراءته وفك خيوطه وخطوطه وألوانه وكلماته ورموزه، والبحث عن دوافعه وعما وراءه، كذلك فإنَّ أنجح الدلالات وأقواها تلك التي تأتي من المُعطى الأول ثم تأخذُ في التبلور ثم تترسَّخُ ثم تتشعبُ فتستوي شجرةً مثمرةّ تؤتي أكُلَها مع كلّ خطوةٍ نخطوها في رحلتنا لمحاولة فهم العمل، وما يمكن أن تنتجَهُ هذه الرحلةُ وهذا الفهمُ لدى المتلقي العابر أو الشغوف المقيم أو لدى الدارس والباحثِ المتخصص والذي يطلُّ علينا الآن من نافذة المنهج والنظرية والمدرسة."
.. وأفكر..
أهذه رقصةٌ أم مناجاة، وهذه الوضعية التي لراقصة باليه خبيرةٍ تستعرض نفسها وحركاتها في دلال وخفة وسكون قبل بدأ العرض، أو أنها الأميرة شهرزاد تبدأ رقصتها المنفردةَ لشهريار لإغوائه وإغرائه وإزاحة الكآبة الأسطورية التي تسكن روحه وتحرمه الأنس والنوم والرفقة الدائمة، وبينما هي على حالتها تلك _في الروايات الشعبية والتصاوير التي تتناقلها الأجيال عبر العصور والأمم_، حتى تحولت هنا في حلم الفنان ولوحته إلى الفردوس ذاتها. لقد تحولت من مجرد ملكةٍ أو أيقونة أو رمز إلى شيء إلى الكل في واحد والواحد المتضمن الكل.، إنها اللغزُ والمعجزةُ والطريقُ والرفيقُ والرحلةُ والجائزة.
أهذه إذن المرأة/ الفردوس/ الأم الأولى/ الطبيعةُ حين ينامُ على ساعديها الربيعُ ويَصحو الربيعُ، كما يقول الشاعر "٣" وقد تحررتْ من فراشها على مهلٍ، تحممت في البحيرةِ المقدسةِ فخرجتْ شفافةً بيضاءَ من غير سوء، جففتْ جسدَها في الحديقة فاستيقظت الحديقةً، تناولت إفطارها من ماءٍ وشمس وهواء وتركت شعرها للريح، جلست طويلا أمام المرآة مرآة الكون وفكرت.. وسألت نفسها وأسكرها السؤال وأغْرَتْها الغريزةُ.. ووصلت لذروة النشوة فتهيأتْ وخرجت راقصة طائرة، تهتز جنباتها كما تهتز البئر والبحر والغيمةُ العابرة، كلُّ عُضوٍ فيها يسافرُ في جهةٍ ويحملُ أمْنِيَةّ ولَهُ روحٌ منفصلةٌ متصلةٌ، ويشيرُ إلى مقامٍ من مقامات الفردوس.
"فمن شريك الرقصة إذن؟ ولمَ لمْ يجعلْ لها الرسامُ شريكا في رقصتها.؟
أكان لك شريكٌ أيتها الراقصةُ، ومنذ متى تسكنين بالَ الرسام وتخطرين في أحلامه وفي أية ليلة دخلتِ المرسمَ وبأيّ صباح تسللت؟
ويأتي الصوتُ العميقُ من الداخل كأنه يأتي من المثل والذكرى اللذين سُقْتُهُما لك سابقًا أو أبعدِ منهما هامسا: إنَّ شريكَ الرقصة ومُتمِّمَ رحلة العمل هنا هو أنت وأنا والجمهور الجالس على مقاعده الآن، والذي يميل برأسه صبوةً وانتشاءً مع كل حركة لون والتفاتَةِ خطٍ وإشارة جسد، إنه المتلقي بعد أنْ تأملَ وفكرَ وحاولَ الفهمَ واطمأنَّ إلى فرضياته وكثَّفَ الدلالاتِ وقارب بينها يصلُ أخيرًا، وكمؤمن يدخل جنته التي وُعِد بها أو ضالٍ وجدَ فردوسه المفقود يدخل اللوحة ويشاركها الرقصة.. رقصة والميلاد والبعث واللحظة الخالدة.
وإننا لنرى الألوان تتمايل وتتمازج وتتعانق صانعة دوامة دوارة تشبه في حركتها حركة التنورة الصوفية أحيانا، كما أنها تصنع بحرا من الأمواج المتغيرة المتجددة أحيانا اخرى، وإذا دققنا النظرَ والحسَّ أكثر وحملَنا صبرُنا سنرى الغاباتِ بألوانها وعشبها وزهرها الأصفر والأحمر القاني والأخضر الخجول والرمادي المتدرج.
غير أننا حين نفيق من نشوة الرقصة واللقاء سنجد أن هذه الدوامةَ وهذا البحرَ وهذه الغاباتِ يمثلون في الأساس والأصل لون تنورة فستان المرأة(الطبيعة/ الفردوس) وقد تخلصتْ من أرقها وخوفها وارتدتْ كلَّ فصولها(الربيع والصيف والشتاء والخريف) وخرجت ترقص لابنها وأبيها وحبيبها الإنسان..
فلا اللونُ ينفدُ ولا الكلمةُ تجِفُّ ولا يزول الأثر.
____________________
*_ سعد علي.. فنان عراقي يقيم بإسبانيا منذ 2004.
١- مداخل إلى علم الجمال/عبدالمنعم تليمة/طبعة مكتبة الأسرة ٢٠١٣.
٢_ سطر من الشعر الصيني.
٣_ عبدالمنعم رمضان/شاعر مصري ينتمي لجيل السبعينيين من قصيدة بيروت.