عن الإحساس
• في نوفمبر 2015 بعد واحد من أيام الجمعة بعد الصلاة في إسكندرية نزلت أشتري بطيخة.. في العادة بخلّي الفكهاني هو اللي يختار وينقي وبكتفي أنا إن أقوله: (حاجة نقاوة كدة من إيدك الحلوة دي؛ أنا مش زبون طياري ها).. جملة ثابتة بضحك بيها على نفسي قبل ما أضحك عليه قال يعني إني صاحي ومدقدق مع إني مش كدة نهائي في تنقية الخضار والفاكهة.. بس المرة دي كان هو مشغول مع زبونة تانية؛ فاستغليت الفرصة ورحت ماسك بطيخة من رصة البطيخ المرصوصة وخبطت عليها خبطتين وحسست عليها زي ما هو بيعمل كل مرة.. طب إيه؛ فين الخطوة التانية!.. مش عارف!.. كملت تخبيط.. التخبيط بقى مع الوقت تطبيل.. طبعًا صباح الهبل ومنظري كان ملفت للنظر لدرجة إنه ساب الزبونة اللي معاه وجالي وهو بيتريق وقال: (هات هات ياك فاكرها سهلة! ماكنش حد غِلب).. رديت عليه بعِند: ما هو مش حوار برضو يا رجب.. مسك البطيخة وعمل نفس اللي أنا عملته من لحظة بالظبط.. الخبطتين والتحسيسة وبعد كدة قال بثقة غريبة: بلاش البطيخة دي وخُد دي.. شاور على واحدة تانية.. قلتله: لأ لحظة مش فاهم إيه الفرق؟.. رد: اسمع الكلام التانية أحسن.. قالها وقبل ما أرد حط البطيخة الأولانية على الرف ومسك البطيخة التانية وخبط عليها زي ما عمل قبل كدة وراح هازز دماغه بانشكاح ودابب السكينة بتاعته فيها بشكل روتيني وقطع حتة على شكل هرمي وخرجها بره جسم البطيخة ورفعها فوق السكينة وقال: شُفت؛ حَمَار وحلاوة. الحقيقة هي كانت حمرا فعلًا بس بصراحة ولأني ما بحبش حد يشتغلني واستكمالًا لحالة العِند العيالي اللي جاتلي صممت على البطيخة الأولانية لأني كنت متأكد إن مافيش فرق بينهم؛ ولو هناخد بصدى الصوت بتاع الخبطتين وملمس القشرة اللي من بره فالاتنين واحد.. قلتله: فل يا رجب بس أنا برضو هاخد الأولانية خالص معلش.. الراجل بمنتهى الصبر قال: ماشي يا أبو عمو هفتح لك التانية بس لو طلعت عطبانة هتاخد الاتنين آمين؟.. قلت: توكل على الله.. فتحها.. طلعت قرعة!.. من كُتر الكسفة كنت عايز الأرض تتشق وتبلعني فحاولت أهلفط بأي كلام وقلت: لأ لحظة.. قاطعني: ها هترجع في كلامك ياك؟.. رديت: يا عم قشطة إحنا اتفقنا هاخد الاتنين والله عادي؛ بس عايز أعرف عرفت إزاي؟.. رد: إحساس.. رديت بتريقة: إحساس إيه يا رجب صلي على النبي هو أنا واقف مع وائل كافوري.. رد باستنكار وبثقة: (أنت مستهون بالإحساس! الإحساس ده نعمة يا بخت مين ينولها).
• في التسعينيات كتب الصحفي "دوت أبراهام" عن قصة الزوج "بن" وزوجته "مارثا".. اتجوزوا وربنا مارزقهمش بأطفال.. "مارثا" كانت حنينة جدًا على "بن" وكان عندها طبع غريب إنها ومن وقت معرفتهم وفي الخطوبة ولحد ما اتجوزوا كانت بتحس بيه قبل أي حاجة. قبل ما يتعب.. قبل ما يكون جعان.. قبل ما ينطق الكلام هو عايز يقول إيه وتحس بيه إمتى محتاج يكون لوحده.. لكن بعد الجواز "بن" كان عنده مشكلة إنه كان بيحس بالضيق والخنقة كل ما بيدخل المطبخ.. السبب؟.. برطمان كبير محطوط على رف من أرفف المطبخ وقديم جدًا لدرجة إن ألوانه بهتانة ودايمًا "مارثا" تحذره إنه يقرب منه!.. ليه؟.. بعد جوازهم بفترة قصيرة أم "مارثا" جابت البرطمان ده لبنتها وقالتلها إنه فيه أعشاب سرية وعشان تحافظ على حب جوزها لازم تحط من الأعشاب اللي فيه في كل أكل تعمله.. وفعلًا وعلى مدار أكتر من 28 سنة جواز كل مرة كانت "مارثا" بتطبخ فيها كانت بتاخد البرطمان من على الرف وتفتحه وتدخل صباعين من صوابعها جواه وتنطر نطرة بسيطة من محتويات البرطمان على الأكل اللي بتطبخه.. سواء حلو أو حادق مش بتفرق؛ دايمًا نطرة الأعشاب موجودة وشريك أساسي في كل أكل بيتحضر.. كل مرة تنتوفة بسيطة جدًا عشان البرطمان مايخلصش.. الغريب إن أكل "مارثا" كان الكل بيشهد بروعته وطبعًا الفضل لأعشاب أمها السرية!.. "بن" كانت مشكلته الدائمة معاها (إنتي ليه مش عايزاني ألمس البرطمان حتى؟) وهي كان ردها الدائم عليه: (عشان ممكن تكسره ولو كسرته والأعشاب وقعت وخلصت مش هعرف أجيب منها تاني).. حاول كذا مرة لحد ما استسلم وطنش الموضوع تمامًا بعد ما حسبها ولقى إنه مش هيستفيد حاجة خلاص هي حرة خلّيها محتفظة بسرها أنا ماليش غير إن الأكل بيبقى تحفة وإنها بتراعيني وبتحبني فعلًا؛ بس مع الوقت بقى بيتحاشى يتواجد في المطبخ أصلًا.. "مارثا" تعبت في يوم بسبب ألم الزايدة الدودية اللي كانت ملتهبة.. "بن" جري بيها على المستشفى والدكتور قرر إنه يحجزها لتاني يوم الصبح عشان يعمل لها عملية استئصال الزايدة.. "بن" روح على البيت وهو حزين ومكتئب لأن دي أول مرة يبات فيها لوحده.. دخل المطبخ عشان يحضر أي حاجة ياكلها.. وهو قاعد على الترابيزة بياكل عينيه جت على الرف اللي عليه البرطمان.. فكر إنه يقوم يشوف جوّاه إيه وأهي فرصة إن مراته مش موجودة.. كان في تردد كبير بين الفضول وبين الأصول.. شوية قليلة وحسم التردد وقرر إنه ينزل البرطمان ويشوف إيه حكايته.. قام ومشي ببطء ومسك البرطمان وإيده بتترعش إنه يتكسر.. فتح الغطا.. لقاه فاضي!.. اكتشف إن تُقل البرطمان ماكنش عشان اللي جواه.. لأ.. ده كان بسبب وزنه الطبيعي.. يعني البرطمان إشتغالة لمدة 28 سنة! أكيد مراتي مجنونة!.. اتصعق من المنظر ولمح بطرف عينيه ورقة صغيرة ملزوقة في قاع البرطمان.. دخّل إيده الضخمة جوّه وطلعها وقرا اللي مكتوب فيها تحت ضوء مصباح المطبخ.. جملة واحدة بخط أُم مراته بتقول: (أوصيكي يا "مارثا" أن تضيفي قدرًا من الإحساس لتزيني به حبك وكل شيء تصنعينه لزوجك).. "بن" رجع كل حاجة مكانها زي ما كانت وقعد يكمل أكله بهدوء وعلى وشه ابتسامة بعد ما الدرس وصل وفهمه.. من وقتها وبعدها اتغيرت نظرته لزوجته وبقى يعاملها بإحساس ويمكن ده كان أهم سبب إن جوازهم استمر 57 سنة كاملة!.
• الأديب "باولو كويلو" قال: (بواطن الأشخاص والأشياء كلها واضحة شفافة؛ لا تحتاج إلى أكثر من شخص حساس ليراها).. مع الوقت بقيت مؤمن إن فعلًا الإحساس ده نعمة يا بخت مين ينولها.. مش الكل بيعرف يفضفض ولا يحكي بس الكل بيحتاج اللي يحس بكلامه دون ما يقوله.. هو عايز بس مش عارف وساعتها بيكون محتاج حد متطمن إنه هيلاقيه جنبه لما يقدر يستدعي شجاعته على الحكي.. الإحساس زي قرون الاستشعار تعرف إمتى أنا عايزك جنبي وإمتى محتاج أكون لوحدي.. اللي يقدر يخمن ويحس بيختصر سكك.. الإحساس بيوفر وقت، مجهود، تعب أعصاب.. تقدر تعلم أي بني آدم أي حاجة في الدنيا إلا "الإحساس" إن ماكنش يطلع من الإنسان لنفسه يبقى انسى.. تراعي فتتراعى.. الطبيب النفسي د."أحمد كامل" قال لي في مرة: (أي بني آدم بياخد فترة عشان يوصل للحظة الانفجار.. تراكمات بتتكون وتتجمع على مراحل؛ ونفس البني آدم مش بيكون محتاج أكتر من كلمة تتقاله في نفس وقت الانفجار عشان تمتص غضبه.. بيكون مش محتاج أكتر من كلمة من حد يبان إنه حاسس بيه).