الأحد 24 نوفمبر 2024
More forecasts: Wetter 4 wochen
رئيس التحرير
محمود المملوك
أخبار
حوادث
رياضة
فن
سياسة
اقتصاد
محافظات

الشاعر وقصيدتُه (أ)

الأحد 20/فبراير/2022 - 07:28 م

ومثلما تصطدم الحممُ والنيازك والكويكبات في الفضاء ببعضها البعض في عنف واحتدامٍ وفوضى واستحالة ثبات؛ تصطدم وتتصارع الأفكارُ والوقائعُ أيضا في ذهن الشاعر وخاطره وتضغطُ عليه، ومثلما تنقر الطيورُ رؤوسَ السنابل وتبني أعشاشها بين أغصان الأشجار تنقرُ الذكرياتُ والمعرفةُ رأسَه ووجدانَهُ وتبني أعشاشها في مخيلته وتفتحها على وسعها لكل ما يُوقِظُ فيها لحظةً استثنائيةً أو نغمًا شجيًّا أو حالًا ظنَّ الشاعر أنَّهُ نسِيها لكنها تصحو من مكْمنها في الذاكرة وترفرف طائرةً مضطربةً كقطيع فَراشٍ خائف، ثُمَّ وحينَ مُلاطَفَةٍ صادقةٍ، وفي لحظةِ إلهامٍ عفْويةٍ أوْ مستدعاةٍ عبر التأمل والصمت العميق يتشكل معنى ما أو تصورٌ ما في ذهنِ الشاعر، نتيجة تلاصق الأفكار والخواطر الشاردات وانجذابها لبعضها، فيدور المعنى شريدًا وحده في ملكوت الحالِ أو اللحظة الشعرية يفتش عن نقطة بدء أو مركز ينطلق منه..
حركةٌ واحدة وينفجرُ الصوتُ مُعلِنًا ولادةَ قصيدة جديدة.

_ والشاعرُ إذ يحدد المعنى ويهاجر به من نقطة البدء والتي ستذوب بعد قليل عبر حقلٍ سرمدي لا متناهٍ من الاحتمالات والمنعطفات، ثم يتكشف المعنى أكثر ويشتد وطأة وانصهارًا، ثُمَّ يتفتت في لحظة التشظي ويتشعب إلى معانٍ فرعية وأفكارٍ تتباعد متناثرة، وما أنْ توشِكَ على الضياعِ حتى تتجمعَ مرةً أخرى معنًى كليًّا متمِّمًا كالنهر مغامرته من المنبع إلى المصب، ثُمَّ وفي لحظة ما من عمر هذه الهجرة وهذا الالتفاف يتوحد الشاعر بالمعنى، ويبدأ رحلةَ اختيار وتحديد الكتلة/ الكتل اللغوية التي يبني بها معناه، آخذا في اعتباره أن الكتلة لا بد أن تكون من الرهافة والقوة والتكثيف بحيث تُعَبّرُ ليس فقط عن المعنى الذي يريده هذا الشاعر أو ذاك، وإنما تتجاوزه لتنتج معاني إضافيةً وتصوراتٍ في أثناء مرورها على المتلقي والقارئ.  
وإن عثراتٍ كثيرةً لا بُدُّ أن تعترض البناء، فإنَّ الكتلةَ تستعصي استعصاء النيازك والشهب، وهي حين تلينُ وتمنحُ نفسها أو يؤخذُ بناصيتها سوف تضيفُ دلالاتٍ وتغيُّراتٍ جديدةً إلى وعلى المعنى، وسيذهب بها ومعها الشاعرُ في كل الدروب وشتى العوالم التي ولَّدَتها والتي يمكن أن تولدها، وهنا يلتف المعنى حول الكتلة، وينتقلُ منها إلى غيرها ليؤكدَ نفسَهُ ويثبِّتَها عبر سلسلة من الالتفافات المكثفة التي تمثل رحلةَ اختيار الكتل الأكثر شهيَّةً وسيولةً وسهولةً وامتناعًا وتناغمًا، فيحددُ المعنى مسارها الشعري وهي تحدد مساره اللغوي المعبر عنه من خلال المفردات والأصوات التي تتكون منها الكتلة، حتى إذا اندمجا -المعنى والكتلة- وتمازجا بحيث لا يعطِّلُ أحدُهُما عملَ الآخر أنتجا قصيدةً فنية مُشعِّةً أصيلةً مهما كان شكل البناء عموديًّا، تفعيليًّا، نثريًّا ما دام كان الشكل الصادقُ الفذُّ ابنًا لاندماج وتوحُّدِ المعنى بكتلته في وعْيِ الشاعر، وإنه ليصل أخيرًا بعد رحلته وهجرته من نقطة البدء التي ذابت وأصبحت مجردةً، إلى نقطةٍ أخرى معلومة معينَة بالحدس واللمس والنظر تفضي به إلى أختها ثم إلى أخرى، وهكذا لا يتوقف نهرُ الشعر عن الجريان والشاعر عن التجدد، كما لا يتوقفُ النصُّ الشعريُّ الحقيقيُّ عن إدهاشنا عبر السنين والقرون، وما هذا إلّا لأنه بُنيَ عبر تجربة/ رحلةٍ معرفية فنية حيَّةٍ من لحم ودم العالم، وَلَكَمْ تمنَحُنا وتذهبُ بنا كلُّ قراءةٍ أو مطالعةٍ أو سماعٍ له إلى تأويلاتٍ طازجةٍ ومشاهدَ وأفقٍ جديدين، وتفتح أنظارَنا وبصائرَنا على مدى واسعٍ لا يَحدُّهُ حدٌّ أو صِفة..
إنها رحلة الشاعر في البحث عن قصيدته، ورحلة المعنى في البحث عن كتلةٍ يرتديها وشكلٍ يحتويه.

_ فما الذي يحدث ونحن مقبلون على قصيدة جديدة وما الذي قد تقرر سلفا في الوعي الشعري ويحتاج هنا أن يتطور أو يتغير لصالح الشِّعر؟

تابع مواقعنا