قراءة في قرارات المركزي الأخيرة
أ ب اقتصاد، أن فترات الأزمات الاقتصادية العالمية أو المحلية تفرض تعاملا بحنكة وحكمة غاية في الشدة، وأن أي قرار مهما كان مجاله لا بد أن يتم دراسته بعناية ومراجعة مستفيضة وإزالة أي بند به قد يربك الموقف أو يساهم بنسبة ضئيلة في مفهوم مغلوط.
فمنذ أيام قليلة، أصدر البنك المركزي قرارا يلزم البنوك العاملة في السوق المحلية بوقف التعامل بمستندات التحصيل في تنفيذ كافة العمليات الاستيرادية، والعمل بالاعتمادات المستندية فقط بدءا من مارس المقبل.
سرعان ما تعالت نبرات رافضة للقرار ومن ثم وجب النظر له بتأمل شديد في ضوء اهتمام القيادة بالتصنيع والإنتاج والنمو الاقتصادي.
أن أكبر متضرر من قرار المركزي هو المُصنع المحلي الذي بنى موازنة الاستخدامات النقدية على أساس أن عنده فترة تسهيلات موردين، بمعنى أنه يمكنه أن يشتري وينتج ويبيع ويعطي تسهيلات سداد للزبائن، ثم بعد ذلك يسدد هو، والآن أصبح مطلوب منه أن يوفر سيولة أو غطاء نقديا مقدما أو تسهيلات ائتمانية.
وتأثير ذلك على الاقتصاد، هو تقليل دورات رأس المال لأنه بشكل بسيط "من يعمل بـ 10 جنيه سيولة و10 جنيه تسهيلات بنكية و20 جنيها تسهيلات موردين"، مضطر الآن يعمل بنصف ذلك فقط.. دورات رأس مال أقل فبيع أقل فدفع ضرائب أقل، يعني ذلك بطالة أكثر وانكماشا اقتصاديا أكثر.
أما عن المستهلك، فسوف يواجه شحا في بعض السلع مما سيؤدي إلى تضخم سعري نتيجة اختلال العرض والطلب، وبما أن أغلب الاستيراد ليس سلعا رفاهية يمكن الاستغناء عنها، بل خامات أساسية استراتيجية؛ فالتأثير سوف يكون هائلا للغاية.
قد يتحدث البعض أن العلة من القرار هو تنظيم الاستيراد العشوائي، وعلى الرغم من أن استيراد أي شيء هو حق لأي أحد، دعنا نوافق مجازًا ونوقف استيراد أكل قطط وكلاب وفوانيس رمضان وبندق ولوز وغيره من هذه المنتجات التي لا تشكل 5 ٪ من فاتورة الاستيراد أصلا، ولكن هنا لدينا وقفة، فالقرار لم يفرق بين الاستيراد بغرض الصناعة والذي يتم عن طريق بطاقة استيراد احتياجات مستلزمات الإنتاج، والاستيراد بغرض التجارة والذي يتم عن طريق بطاقة استيرادية، وهذا أمر يوضح الفرق بين مُصنع وتاجر، وشتان في حاجة الاقتصاد المحلي لهما.
وكما لم يميز بين تاجر ومُصنِّع، فهو شبه لغى تسهيلات الموردين وأصبح مطلوبا من الجميع توفير سيولة أو غطاء ائتماني حتى يتمكنوا من استمرار عملهم، وهنا يتضح أن لدينا مشكلتين أولهما الحصول على تسهيلات بنكية بالنسبة لصغار المتعاملين، وهو أمر شديد التعقيد وقادر أن يخرج الكثير من السوق ويخلق احتكار لصالح "الكبار".
والثانية، هي قدرة البنوك على الاستيعاب، فحتى أمس، لم تكن معظم البنوك على دراية بتفاصيل التنفيذ، كما أن فتح اعتماد مستندي في الطبيعي يأخذ حتى أسبوعين إلى أن يتم مراجعته وتحويله من مسودة لنهائي.. وهنا السؤال لو مصر كلها اشتغلت اعتمادات، هل البنوك جاهزة لذلك والاجابة بالقطع لأ.
أعلم أن القرار، هو محاولة لتخفيف الضغط على الدولار وتحديدا بعد ظهور تقرير BNP Paribas الذي يوضح حجم الضغط على السيولة الأجنبية، وبالطبع أسهل شيء لمواجهة ذلك هو فرملة الاستيراد!.
وهذا الأمر يطرح مشكلة اقتصادية فقهية الحقيقة وهي هل مصر مهتمة ليكون عندها اقتصاد "تمويلي" أم اقتصاد "تشغيلي"؟.. تمويلي ملخصه أن مصر حصالة يضع فيها الأجانب نقد أجنبي حتى يأخذوا فايدة عالية، أما التشغيلي فيعني اقتصادا مبنيا على إنتاج وتجارة وخدمات.. وللأسف ما تم يشير إلى أننا مهتمون أكثر بأن نكون حصالة دولار وليس اقتصادا إنتاجيا حقيقيا.
الأصل هو أن البلد لها توجه مفهوم والقرارات تكون دافعة لهذا التوجه، إنما أن نتحدث عن صناعة واقتصاد ونأخذ مثل هذه القرارات التي تشبه "تجار العملة" فنحن نحتاج وقفة حقيقية وتفرقة بين الشعارات والقرارات.