الأربعاء 27 نوفمبر 2024
More forecasts: Wetter 4 wochen
رئيس التحرير
محمود المملوك
أخبار
حوادث
رياضة
فن
سياسة
اقتصاد
محافظات

مراثي الموتى في الصعيد..!

الثلاثاء 01/فبراير/2022 - 08:25 ص

الموت هو الحقيقة الوجودية الكبرى في حياة الإنسان، وقد أدركها وتأملها كثيرًا أجدادنا المصريون القدماء فخلقوا مقابلًا لها تصورات الحياة الأخرى، وفكرة الخلود، وربطوا كل ذلك بفكرة الثواب والعقاب التي تجعل الإنسان يجني بعد الموت حصاد ما زرعه في حياته الأرضية.

 

بل ذهب بعضهم في عصور الاضطراب والاضمحلال إلى الاحتفاء بالموت وتمنيه للهروب من حياة قاسية غير عادلة، واعتباره وسيلة  للحرية، وطريقًا للعودة إلى الوطن الأصلي والبيت القديم، فقال أحدهما:-

 

إن الموت اليوم أمامي مثل نهاية المطر
مثل عودة رجل إلى البيت بعد رحلة فيما وراء البحار
إن الموت اليوم أمامي مثل سماء صحو
مثل شوق المرء لرؤية بيته بعد أعوام من الأسر.

 

ولم يمنع إيمان المصريين القدماء بحتمية الموت وفكرة الخلود والعالم الآخر، الذي يتحقق فيه العدل المفقود في الدنيا، من الشعور بالحزن الشديد على فراق موتاهم، ومعاناة وجع البعاد ولوعة فقد الأحباب؛ ولهذا أبدعوا في رثاء الموتى وتعديد مناقبهم وآثارهم، وتأجيج دواعي الحزن على رحيلهم، من خلال فن "العديد أو "المراثي" الذي عرفته الحياة الاجتماعية المصرية عبر عصور مصر التاريخية، خاصة في الصعيد.

 

وفي كتابه "المراثي الشعبية.. العديد في صعيد مصر"، الصادر عام 1982، أورد الدكتور عبدالحليم حفني حوالى 40 نوعًا من العديد الذي رصده ببحثه الميداني عند نساء الصعيد، مثل عديد المرضى، والعديد على الزوج، والأخ، والأطفال، وعديد الشباب، وعديد الغُسل والجنازة، وعديد العُروس التي لم تتزوج، وعديد الرجل الشجاع، وعديد الذي مات في الغربة، والمرأة التي مات أولادها، وعديد ذوى السلطة، وعديد الغريق والمحروق والسجين... إلخ.

 

وقد توقفت كثيرًا في هذا الكتاب القيم الذي يحمل بين دفتيه ميراث حزن الصعايدة الأصيل عند "مراثي الغريب" وهو مَن مات بعيدًا عن أهله.

 

والذي وصل خبر مرضه قبل موته إلى أمه أو زوجته أو أخته، فنراها تخشى عليه من الموت في الغربة، فتدعوه إلى العودة سريعًا إلى بلده، فتقول:-

 

نادى المنادي وطوح النبوت
روح بلادك يا غريب لا تموت
نادى المنادي وطوح الحربة
روح بلادك يا غريب أبقى.

 

وعندما يفيض كيل حزنها من تصورها الحبيب الغريب وحيدًا في مرضه، تخاطب بنات جنسها من نساء بحري، لعل واحدة منهن تعتني بالغريب الوحيد في مرضه، فتقول:-

 

بنت البحيرة ما عندكيش نار
قيدي الفتيلة للغريب عيان
بنت البحيرة معندكيش ولوع
قيدي الفتيلة للغريب موجوع.

 

وعندما يقع المكتوب ويرحل الحبيب، تعاتب المرأة المُوجوعة فقيدها الغريب على أنه لم يمت بين أهله وشيعته الكثيرين، فتخاطبه قائلة:-

 

ليه يا غريب ما مت في واديك؟شيعتك كبيرة يعززوك أهليك
ليه يا غريب ما مت في بلدك؟شيعتك كبيرة يعززوك أهلك.

 

وعندما يصل لها خبر موته غريبًا وحيدًا، دون أن يبكي عليه أحد، أو يصرخ لفقده، لا تجد المرأة الصعيدية مفرًا من أن تُناشد بنت بحري لتجاملها في فقيدها ولو بصرخة أو دمعة تُعبر عن وجعها، فتقول لها:-

 

بنت البحيرة يا لابسه الطرحة
أمانة عليكي تعطي الغريب صرخة
بنت البحيرة يا طالة من الحيطة
أمانة عليكي تعطي الغريب عيطة.

 

وعندما تسافر المرأة الصعيدية الموجوعة لزيارة قبر فقيدها الغريب في بلاد بحري، تجد قبره مجهولًا مهانًا بين القبور لعدم زيارته والعناية به، حتى أن البقر يرعى عليه، فتتوجع أكثر بسبب هذا المشهد، وتخلق موقفًا دراميًا بديًعا تدخل من خلاله في حوار مع القبر، فتقول:-

 

- قبر مين اللي البقر داسه؟
- قبر الغريب اللي فاتوه ناسه.
- قبر مين اللي البقر هدّه؟
- قبر الغريب اللي فاتوه أهله.

 

ولأن تلك المرأة سوف تعود إلى الصعيد، وتترك قبر  الحبيب الغريب وحيدًا من جديد، نراها تخاطب إحدى النساء من بنات بحري القادمات لزيارة قبر أهلها، وتدعوها لزيارة قبر الحبيب الغريب والترحم عليه، كلما مرت عليه عند زيارتها للجبانة، فتقول لها:-

 

يا طالعة والكحك في كمك
فرقي على قبر الغريب جنبك.

 

في النهاية، إن تلك المراثي الشعبية تُجسد بامتياز عبقرية الوجدان الشعبي المصري، وبلاغته وقدرته الفائقة على الوصف والتعبير والتكثيف والايجاز.

 

كما تُجسد ميراث الحزن الجنوبي المتجذر في أرض الصعيد، الذي يجعلنا نقول هناك: "حزن الصعيد فاجر"؛ بمعنى أنه حزن  لا يستحيي، ولا يرحل، بل هو سافر الوجه ومُستبد مقيم.

تابع مواقعنا