ليالي الهُدنة.. رواية البوح من خلال اليوميات
السرد الروائى شبيه بغابة متشابكة ملتبسة معقدة ومغرية..الغابة لا تمنح مفاتيحها بسهولة للزائر الكسول.. وأوكار الطيور وآثار الزواحف والطرق الملتوية والمنعطفات، هى فناء مفتوح ومغلق وساحر ومخيف، وبسيط وشديد الكثافة، وليس سهل ارتياد تضاريسها والخروج بلا خسائر.
تذكرت تلك المقولة لأمبرتو إيكو وأنا أكاد انتهى من رواية ليالي الهدنة للكاتبة الروائية منى العساسى وهي رواية رواية يمكن أن نقول عنها إنها من روايات ما بعد الحداثة، حيث لا حدث رئيسى أو جوهري تدور حوله الأحداث يمكن أن تساعد القارئ لكى يكمل عملية القراءة التى شرع فيها.
نسجت الرواية على لسان الراوى العليم والمتحكم فى كل شيء، ورغم هذا نجد صوتا خافتا للبطلة التى تسرد تاريخها مع الآم والحزن الذى يغلفها ويصنع منها أنثى محطمة، وقد وجدت ذاتها وسلوتها أو يمكن أن نقول إنها وجدت خلاصها مما هى فيه من خلال البوح والحكى الذى وجدت فيه الحل لما تعانيه، وتلك حيلة روائية متبعة عند الكثير من روائى العالم.. وهذا الأسلوب ذكرنى برواية آلام الفتى فرتر لجوته، وهى مكتوبة على شكل رسائل أو يوميات تحمل تواريخ كتابتها، أو كما نجد البوستات فى تلك الأيام وفى الرواية التى نحن بصددها حيث نجد يوميات قصيرة جدا كتبتها بطلة الرواية التى لا نعرف لها اسما.
- ومن العتبة الأولى للرواية والتى عنوانها ليالى الهدنة والقسط أكبر من الرواية يندرج تحت هذا العنوان، ثم نفاجأ باخر فصلين فى الرواية يأخذنا إلى منحنى مختلف تماما شكلا ومضمونا، حيث نجد البطلة أكثر حده فى البوح فنجدها تقول: "سأتقيؤك مع نزيف أسنانى، لتبقى كالغضة فى حلقى، كلما وسوس شيطانك فى جوفى أبصقك جيفة فوق تراب خذلانى، عاريا بلا كفن، بلا مقبرة، سأعلق جثتك على باب ذاكرتى لتبقى هكذا كسوط جلاد يوجعنى كلما التفت نحوك بعين ضعفى.
ثم نجد البطلة فى الصفحة المقابلة تقص علينا هذا المشهد الدستوبى فجأة تمتد إحدى الأيادى، تقتلع عينه وتضعها فى جسدها تلوكها فى نشوة، تمضغها، تطحنها أضراسها، تبتلع، تسمع صوتها فى الخلفية، تتأوه منتشية وتمصمص أصابعها فى نهم ومن هنا نكتشف أن الرواية تأخذنا فى منحنى جديد تماما بعد أن أفصحت البطلة عن مأساتها وهى أنها طُلقت، لا لسبب غير أن الرجل الذى كان زوجها لم يكن يجد ذاته إلا فى ان ينتقص منها وقد تجلى هذا الإحساس بعد أن طلقها فرتاحت من هذا الهم الذكورى الذى إنزاح من على صدرها وقد تحررت منه تماما بعد سجلت المأساة على الورق.
فالبوح والكتابة أحد أوجه العلاج النفسى الذى يجب أن يكون له حظا وافرا عند أطباء الطب النفسى، ومن تلك النقطة سوف نقوم بمداخلة لبد منها أن الأدب فى مراحل كثيرة يكون سابقا للعلم والعلماء، وانا سوف اشير لروايات دوستويفسكى حيث كانت موضع دراسة قام بها فرويد فيما يتصل بمرض الصرع الذى قاد فرويد إلى تشخيصه بناء على اعمال دوستويفسكى، وقد شخصه على أنه مرضا نفسانيا وليس جثمانيا.
إن الرواية استهلكت كثيرا فى حكيها وهى تقدم لنا مأساتها وعلاقتها بأفراد العائلة والشارع والمجتمع حيث يقسوى عليها الجميع رغم إنه ا لم تقع فى خطأ غير موافقتها على الزواج من رجل مارس عليها امراضه النفسية والسادية التى ظهر فيها براعة منقطعة النظير.
ونعيد النظر إلى الغلاف لكى نجد عنوان ثانى يوجد تحت العنوان الأول وهو مطارحات الالم.وسوف ننهى مقالا ونحن نقف عند هذا العنوان لكننا الان نعود إلى عنوان الرواية الأصلى وننظر إلى كلمة الليالى لنتذكر الكلمة الأشهر على مستوى الأدب العالمى وهى ليالى الف ليلة وليلة.
لكن الليالى هنا معنية بذات واحدة، ذات تعانى فى مجتمع لا يرحمها ويثقل على كاهلها بأشياء لا طاقه لها بها. كل هذا ونحن لا ندرى البته لما المجتمع قاسى عليها،وهى اى الراوية لا تريد ان تفصح لنا لما يحدث لها كل ذلك..ونحن من جانبنا لا نتعجل المعرفة دامة اللغة والسرد يمتعنا بخلق عالم وجودى نشعر جميعا به ونمضى فى القارئ لنجد أن السرد يتأرجح مابين الرواى العليم وضمير الآنا والراوية التى تعانى من عالم موحش مخيف عالم مابعد الحرب الكونية الثانية التى خرج من رحمها الفلسفة الوجودية التى تبحث عن الماهية وذات الانسان المنسحق تحت اقدام الحضارة والمجتمع المتوحش.
إن الرواية وكأنها مكونه من جزئين، جزء يحمل اسم ليالى الهدنة، والجزء الأخير يحمل اسم مطارحات الألم وهو مكون من فصلين الفصل اسمه ليلة فقدة ترتيبها.
وفى هذا الفصل نجد صوت البطلة أكثر حده وأكثر وضوحا وأكثر رغبة فى الانتقام، ووجود رغبة فى داخلها لوضع حد لما هى فيه.
ومن هنا نجد الفصل الأخير يحمل عنوانا ملفتا وهو الخروج والخروج لبد أن يذكرنا اول ما يذكرنا بخروج اليهود وسفر الخروج الموجود فى التوارة، وعلى الفور نجد الرواية تذكر آيات قرآنية أكثر من مرة فى متن النص فنجدها تبدأ فى الليلة السادسة بعد الهدنة بقولها: "إن كنت تظن أن الفراق ينهى الحب فأنت مخطئ لا محالة، الحب حالة عميقة جدا من التوحد فى الآخر، فارق يوسف يعقوب عُمرا، ولم يكن لينساه حتى قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين.
وقد حاولت كثيرا أن أفهم السبب الدرامى لذكر آيات القرآن الكريم ضمن الحدث الروائى أو ضمن النص، لكنى لم أتمكن من ذلك؟!
وبقى أن أذكر الترابط الموجود بين الرواية أو البطلة وأغنية أم كلثوم غلبت أصالح فى روحى، وهذا التناص ما بين الرواية والأغنية التى يجب أن نسمع ونقرأ بعض كلماتها لكى نكتشف هذا التناص الموجود بين كلمات وفكرة الأغنية التى إبداعها احمد رامي وبين رواية منى العساسى، ونقرأ كنت اشتكى لك أيامي / وأشكى لمين ظلمك لى / وكان رضاك نور أحلامى صعبان على اللى قاسته فى الحب، من طول الهجران/ ماأعرفش ايه اللى جنيته من بعد مارضيت بالحرمان.
وفى نهاية نظرتنا للرواية يمكن أن نقول أن الروائية أو الروائى غير معنى بما يقوله عمله وإنما معنى فى المقام الأول هو أن يقدم لنا الجمال بطريقة فنية من خلال نصه، ليخرج المتلقي من النص بما لم يرد على ذهن المؤلف قط ونحن لدينا نماذج كثيره جدا، يمكن أن تبرهن من خلالها على ما نقول، ففى رواية القاهرة الجديدة لم يكن المؤلف معنى بقول أو إفهام القارئ ماذا يريد أن يقول، وانما كان معنيا أن يقدم عملا إبداعيا بأسلوب فنى.. اى الأولوية عند نجيب محفوظ كانت للعمل الفنى.
الجمهور عايز كده
وأيضا يمكن أن نشير إلى الست أم كلثوم التى كانت معنيه فى المقام الأول والأخير بالفن فى عملها ثم يتبقى للجمهور أن يتفاعل مع هذا الفن / ومن تلك النقطة نكتشف زيف نظرية "الجمهور عاوز كده" التى يتشدق بها بعض اللذين تفتقد أعمالهم الحس الفنى الذى يبغيه الجمهور وقد ظلم الجمهور مع تلك الأعمال التى تفسد الذوق الفنى لدى المتلقى الذى يبحث عن الفن فى أى شئ يقابله فى حياة ، وأيضا كانت الأولية الفنية موجودة عند الروائية منى العساسى وهى تبدع عملها الروائى الذى كتب نفسه.