ريتا بدر الدين تكتب: هل تنبأ «مرزوق» بأحداث 11 سبتمبر
أتجول في مكتبة والدي كأني في حديقة متنوعة الزهور والرياحين، هكذا هي رفوف المكتبة التي تعج بكتب ومجلدات متنوعة لكبار المفكرين والأدباء العرب والأجانب، أما الرفوف الأخرى فهي للمجلدات الثقافية كالرسالة والهلال، والمجلات الاجتماعية كمسامرات الجيب، والاثنين، وكلها كانت تصدر في أربعينيات القرن الماضي، وقد قرأتها كلها وتعرفت على الحياة الاجتماعية والسياسية في مصر.
كما وقرأت مقالات بأقلام طه حسين والعقاد والحكيم والمازني وفكري أباظة وإحسان عبد القدوس ويوسف السباعي، وغيرهم.
وقد لفت نظري مجلة صغيرة الحجم اسمها "الدنيا الجديدة"، أخذت أتصفح أوراقها الصفراء، إذ إنها صدرت في شهر يناير لسنة 1945 وثمنها 3 صاغ، وفيها أبواب متنوعة تحت اسم بريد العالم.
استوقفني مقال في الصفحة 37 وهو منقول عن مجلة اسمها "آسيا"، لكن دون توقيع والعنوان "مرزوق"، وصورته على طول الصفحة بملابسه العربية وابتسامته التي تظهر أسنانه البيضاء وبشرته السوداء.
يستهل الكاتب المقال بالحديث عن البساط السحري، وكيف تحول إلى طائرة، وهنا سأختصر الحديث عما كتبه بالتفصيل، إذ يهمني فكر وآراء مرزوق، فالكاتب حيث كان يقف في استقبال الطائرة التي وصلت نيويورك وعلى متنها كرام العرب من العائلة المالكة السعودية الأمير فيصل والأمير خالد ومعهما الحاشية، ومرزوق كان يمشي خلف الأمير فيصل، فهو الحارس الخاص وأقرب المقربين له، “أنا اعتقد أنه دبلوماسي مصري يعمل في القنصلية أو في الأمم المتحدة”.
يقول الكاتب دعاني الأمير فيصل على العشاء في فندق ولدورف، وكان معنا الحارس مرزوق، فتعرفت على جوانب شخصيته، وعرفت أن الملك الوالد عبدالعزيز قد اختاره حارسًا لابنه فقد وجد فيه خصالًا حميدة من الشجاعة والأمانة وحسن التصرف، والذكاء يشع من عينيه، والملك اشترى منه فرسين أهداهما للملك المصري وللملك الإيراني، فمرزوق تربى في الصحراء منذ الطفولة، وهو أمي لكنه يستشهد بأبيات الشعر القديم في أحاديثه، ويخاطب الأمير يا عمي، وهذا يدل على تواضع الأمير فيصل الذي حين يطلب منه أمرًا يكون برجاء وليس بالأمر، المهم يقول الكاتب إنه أصبح صديقًا له وعرفه أنه متزوج من أربعة نساء، وقال له حتى لو عدلت بينهن فمستحيل أن تعترف أي واحدة منهن بالعدل ويضحك بصوت عالٍ.
ثم يتابع الكاتب حديثه عن يومياته وخصوصًا عن تجواله بشوارع نيويورك برفقة مرزوق ويسجل ما يثير فضوله تجاه هذا الحارس الظريف الذكي، ويقول تعليقًا على الطبيب الأمريكي حين ذهب للعلاج من وجع في مفاصله، يقول أنا لا يهمني حكاية المرض التي يسردها الطبيب المهم أن يعطيني الدواء هذا الذي يفيدني.
يعلق مرزوق أيضًا على فرقة من النساء المجندات كانت تمر بجانبهم في أحد شوارع نيويورك قائلًا انظر "النساء لا يستغنين عن الرجال فهذا الجندي يتتبع خطاهن ويحافظ عليهن والحياة لا تكتمل إلا بالتعاون بين الجنسين"، أما الأمر الهام الذي قاله مرزوق حين سألته عن رأيه بهذه المدينة، إذ رفع عينيه نحو ناطحات السحاب، وقال بدهشة "أرى كأني في مدينة من قصص ألف ليلة وليلة، إنه من الخيال الذي تحقق كما البساط السحري" لكن للأسف قالها مرتين واستفسرت عن أسفه، فأجاب: “ماذا سيحدث لو أن أحد المجانين ركب طائرة ورمى القنابل على هذه الناطحات، وتقع الكارثة الكبرى بقتل الناس وتحول كل شيء إلى حطام”.
وأردف يقول: “المجانين موجودون في كل الدول قد يأتي أحدهم إلى نيويورك ويرتكب فعلته الشريرة المجرمة”، ثم أضاف مرزوق قائلا: "الطائرة هي الوسيلة العظمى لتقريب الشعوب ليصبحوا شعبًا واحدًا في الكرة الأرضية، فهي أداة لتواصل ووسيلة سلم يجب أن تكون دائمًا لنعيش جميعا بمحبة وأمن وسلام".
هذا هو مرزوق الرجل الأمي الذي يتكلم عن المحبة والسلام في سنة 1945 فهو ذكي على خلق رفيع، مسلم يفهم أن الإسلام دين محبة وتسامح ورحمة وتعايش مع مختلف الأديان والعقائد، فالأديان كلها جاءت لإسعاد البشر وللعيش بسلام وأمان ومحبة، لو كان مرزوق قد مد به العمر لشاهد على التليفزيون كيف جاء شباب من بلاده على درجة عالية من التعليم يخطفون الطائرات ويدمرون المركز التجاري في نيويورك، فكما تخيل مرزوق حصل هذا في سنة 2001 شهر سبتمبر.
للأسف أصبح الإرهاب متعدد المصادر والمسببات الفقر والجهل والفكر الظلامي الذي يمكن أن يصاب به المتعلم، وفهمه الخاطئ للدين، لذلك فإن الوعي والثقافة والانفتاح على الآخر وانتشار القوى الناعمة من الثقافة والفنون كلها تُسهم في الحماية من الفكر المتطرف المؤدي للإرهاب، وإننا نشهد هذه الأيام ما تركز عليه القيادة السياسية في المملكة العربية السعودية من قفزات هائلة نحو الانفتاح والتقدم والتركيز على القوى الناعمة وحقوق المراة ومكافحة الفكر المتطرف ونشر الوعي، وغيرها من الإنجازات العظيمة لمصلحة المواطن السعودي الذي يتمثل بفكر مرزوق المحب للتقدم وليس للتخلف والعيش بسلام وأمان ومحبة مع كل شعوب الأرض.