حياةٌ أخرى.. قصة قصيرة لناصر خليل
ليل طويل، لا بادرة لأخره، لا صباح يجبره أن يفك حصاره عني، لا أنوار تبدد هذه الظلمات التي تلفني، أتقلب في سريري يمينا وشمالا، النوم يأبى أن يمنح جسدي هدوءً وسلامًا.
- يا لها من ليلة طويلة مُرْهِقة!!!
حياتي كانت تسير في مسارها المعتاد، كانت البحيرة ساكنة حتى أُلقي فيها حجر ضخم الأسبوع الماضي، ذلك الحجر الذي زلزل أركانها، موّج ماءها، ألقاه بكل هدوء الدكتور "جبريل": -
- شيخ سيد... يمكنك أن تبصر وترى الدنيا!!!
قالها بعد فحص طويل لعينيّ بأجهزته الجديدة، اعتقدت أنه يمازحني كعادته دائما، لكن موجات صوته كانت حاسمة وحازمة، الغريب أنه لم تندفع مشاعر فرحة وتعلو إلى رأسي، فقدت الدهشة قدرتها السحرية على فعل أي حركة بجسدي أو بوجهي، كل ما ند عني تبسم وقلت هازئا: -
- ماذا يا دكتور...سيد الأعمى سيصبح سيد المبصر!!!
صوت الدكتور لم ينتظر كثيرا حتى اخترق أذني:
- أنا جاد فيما أقول، الطب تقدم يا مولانا...عملية جراحية ويعود إليك بصرك!!!
لا فائدة من تقلبي في سريري، عبثا أن أوقظ الأولاد وأمهم، سيزيدون الهم...اترك السرير، استوي واقفا، أخطو بمحاذاة السرير نحو الشرفة، أتعثر في شيء ما، أقف لبرهة: -
- ماذا دهاك يا سيد!!!
هذه أول مرة أصطدم فيها بشيء في غرفتي منذ سنين،
احفظ كل سنتيمتر في بيتي، أعرف موضع خطوي قبل أن أرفع قدمي أو أحطها على الأرض، لم تخذلني عصاي يوما ولم استبدلها ببشري، لقد بدأ يؤثر على تفكيري هذا الموضوع. لم يضع الأولاد ولا زوجتي وقتا فقاموا بترتيب كل شيء من أجل تلك العملية، دفعوا النقود، حجزوا غرفة العمليات، اتفقوا مع الدكتور "جبريل " على موعد العملية التي سَتُجرى بعد ساعات من الآن.
أخرج للشرفة، نسمات رائقة تداعب وجهي، أعب من الهواء ما شاء لي، أملأ صدري هواءً عليلا...
- كيف هي صورة عالمكم أيها المبصرون!!!
حينما كنت طفلا كنت حانقا على العمى وكنت أشكو وأقول لماذا أنا؟ وأنا بالذات دون كل الأطفال... مع الوقت أدركت أنني متميز ولدي مواهب ليست لدى أي أحد من الناس، أنا أرى بأذني، الصوت يحمل إلى كل ما أود معرفته عن المتحدث، جارنا "عبده الزين "رجل طيب لا يغضب من أحد-لا بد أن وجهه جميل – فنغمة صوته هادئة ومتناغمة، كأنك حين تسمع صوته تسمع خرير جدول ماء عذب في الخميلة، على العكس زوجته /صوتها يشي أنها امرأة صعبة المراس متسلطة، فصوتها كأنه صفير الرياح في صحراء قاحلة. أميز كل من أقابله بهذه الخاصية.
الصوت في أذني بصمة لا تتكرر، بمجرد سماع صوت شخص ما أعرف اسمه وهويته في ثوان، أنا لا أنسى كل ما يدخل أذني أبدا وهذا ما سهل علي حفظ القرآن والذي بفضله أجدت العربية الفصحى ولا أتحدث إلا بها – رغم أن هذا يثير سخرية من يسمعونني – وأعاشني في يسر وبحبوحة.
" يمكنك أن تبصر وترى الدنيا" كلماته لم تكف عن الطنين في أذني. زوجتي /صورة زوجتي التي صوّرتها لي أذناي وعشت مع تلك الصورة ثلاثين عاما، لم تتغير،
لم تكبر، لم تفقد بهجتها يوما، الصورة الغضة التي يرسمها صوتها كلما سمعته. كيف هي الآن عندما تراها عيناي، هل ستتغير تلك الصورة، وماذا إن كانت مخالفة لما استقر في عقلي، لا شك سيؤلمني هذا أشد الإيلام وكذلك صور أولادي، أصدقائي، جيراني، كل من عرفت...هل سأحتفظ بمواهبي أم أني سأترك لهبتي الجديدة...
- يا لحملك الثقيل يا سيد!!!
لم تنتقل عدوى الفرحة التي في أصوات أولادي وأمهم إليّ، فأنا دائما خائف وحزين، أشك في أن لدي شجاعة ومقدرة على تغيير طقوس سنيني الفائتة في الْعَيْش وأنني سأبدأ التعلم من جديد. كيف سأتعامل مع عالم المبصرين هذا، هل أنا قادر على أن أكون "سيد المبصر" بدلا من "سيد الأعمى".
رأسي يؤلمني... أنا سعيد بحياتي هذه فلما أغيرها، وما
الحكمة في أن أكون مبصرا وأنا في نهاية كهولتي، وكم من الوقت سأستغرق لكي أتعود على الوضع الجديد، الوقت ينفد ولا بد من قرار نهائي.
- الصلاة خير من النووووووم!!!
انتبه، أقوم وأتوضأ، أصلي الصبح –على غير عادتي - في غرفتي. خبطات على الباب، وصوت خلفه:
- أبي!!!
- أنا يقظ يا ولدي... أدخل!!!
يصر الباب، أحس بأنفاسه في وجهي
- قلنا نتركك تنام، لترتاح قبل العملية، وتصلي لاحقا!!!
- لست أنا من يترك صلاة الصبح... يكفي أنني صليتها فردا وهنا في غرفتي!!!
- الله غفور رحيم!!!
أمسك وجهه بيدي، أتحسسه بأناملي ببطء، يقول لي وصوته يتراقص فرحا:
- قريبا ستراه يا أبي!!!
- أنا أراه كل يوم...أراه جيدا يا ولدي ولست في حاجة لعينين لأرى من أحب بهما !!!
- لا أفهم!!!
- أنا أفهم...سأقول لك جملة واحدة يا ولدي ولا تجادلني لأنني لن أرجع عن رأي هذا أبدا، أنا لن أُجْري هذه العملية ما حييت.
- لا يا أبي...لا...لا...
ضاعت لاءاته وسط شقشقة العصافير ابتهاجا بالصبح الجديد، وطيور تصدح فوق الأشجار، تعزف سيمفونية لا
نشاز فيها، صوت الأقدام وهي تنهي صمت الطرق، أصوات الناهضين من سباتهم، إنه عالمي الجميل والرائع.