هل تضرب مصر سد النهضة؟
ينتظر الرأي العام المصري – في معظمه- البيان العسكري رقم واحد، الذي سيحمل نبأ ضرب سد النهضة.
يعتقد كثيرون أنه سيحمل الصياغة الأشهر "قامت قواتكم المسلحة"، ويتجهز كثيرون للفخر الوطني، ويتأهب غيرهم للجدال السياسي لإثبات أن الرهان الشامل على شخص الرئيس عبد الفتاح السيسي كان في محله، بينما يناور البعض- ومعظمهم من الإخوان وملحقاتهم البغيضة وأترابهم المخابيل وحلفائهم التوافه- للولولة على تبعات ما بعد الضرب وعن الفخ الذي ورط فيه السيسي مصر، على حد الصياغة التي ستُعمم عليهم لنشرها وسط الناس.
ورغم ما يبدو استنفادًا لكل السبل الودية والطرق الدبلوماسية والشروح الأخلاقية، فإن القفز من اللاحرب إلى الحرب، ليس بالخطوة الهينة، مهما جرت دراستها ودراسة تبعاتها وبدائلها.
ويطرح السؤال نفسه بلا كثير لجاجة، وبحاجة إلى إجابة حاسمة لا تتلكأ ولا تسهب في الشروح وسوق الحيثيات ودراسة الاعتبارات: هل تقْدم مصر على عمل عسكري ضد سهد النهضة؟
أدرك -عزيزي القارئ- أنك تريد الإجابة في هذا السطر وأن كل تأخير لها بمثابة تلاعب بأعصابك التي تريد الاطمئنان بتأكيد حسم الخيار العسكري أو بنفي إمكانية الالتجاء إليه (وكما قالت العرب: اليأس إحدى الراحتين).
وأدرك أنني غير ذي صفة هنا، وأدرك أنك تدرك، وأدرك أن كلينا يريد من يجيبه، وأنني لو وجدت من يجيب بتصريح أو تحليل أو ترجيح أو تسريب، لهرعت إليه معك وتركت كتابة هذا المقال جانبا.
غير أنني هنا أفكر كما لو كنت في الضفة الأخرى (أيا كانت هي وأيا كان أطرافها وداعموها وحلفاؤها).. هل تقدم مصر على عمل عسكري خارج حدود الديار؟
***
باستعراض الشواهد، تبدو مصر أقرب لاتخاذ قرار عسكري، فيما يطمئن إليه قياسي.
وأسبابي في هذا..
أولا: خرج الجيش المصري خارج حدوده عدة مرات على مدار القرن الماضي. فخاض حرب فلسطين (أربعينيات القرن الماضي)، وذهب لليمن (الستينيات) (التي مازال تصورنا عنها أنها هزيمة فادحة، دون النظر للمكاسب السياسية التي حققتها مصر رغم الثمن الصعب الذي بذلته، من توطيد الجمهورية اليمنية ومناكفة الأسد البريطاني في باب المندب، وخوض معركة متسعة الجبهات مع عدة أنظمة حاكمة آنذاك).
وذهبت مصر بقواتها لحرب الخليج في التسعينيات، ونفذت أعمال عسكرية داخل الحدود الليبية على رأسها ضرب معاقل داعش بالطيران قبل سنوات.
ناهيك عن الحروب النظامية التي خاضتها في جبهاتها الداخلية مع إسرائيل وفرنسا وبريطانيا، والحروب غير النظامية التي تخوضها مع الإرهاب الدولي في سيناء وغيرها منذ قرابة العشر سنوات.
ومن ثم فإن حضور الجيش المصري في مشهد تأمين مصالحه الداخلية وامتداداتها الإقليمية، يبدو مألوفا ومكرورا، بل وعادة الخيار الأقرب لذهن الجالس على كرسي حكم هذه البلاد.
بل يبدو ضرورة تخضع لوتيرة فيزيائية شبه ثابتة، إذا ما رجعنا بالتاريخ لقرنين للوراء، وأحصينا مرات خروج الجيش المصري وأسبابها وملابساتها.. قد نجد أنفسنا إزاء "ثابت رياضي" يجبرنا على هذا الخيار كل عدة عقود، فيما يشبه المعادلة الكيميائية المستقرة والظاهرة الفلكية المحسومة في مألوف تكرارها.
فمنذ المصريين القدماء، والبعثات الحربية (الاستباقية والاضطرارية) تتجه شرقا حتى وصلت العراق وقبلها فلسطين وغربا في ليبيا وجنوبا حتى أعماق النيل.
وهو إملاء الجغرافيا بقواعدها التي لا تتبدل، وإرغام مفاهيم الأمن القومي لمن يحكم هذه البلاد على التحرك في كل هذه الاتجاهات، للحفاظ على مصالح ومساحة مصر التي لم تتغير تقريبا، ولم تتطور لأي اتساع إمبراطوري على مدار التاريخ رغم امتلاك المقوم الإمبراطوري قرابة العشر مرات منذ توحيد القطرين في عهد نارمر وحتى وقت قريب!
الرئيس عبد الفتاح السيسي نفسه اليوم ليس كما هو الحال منذ خمس سنوات مثلا، الرجل استقر حكمه وزادت ثقته في نفسه، وجرب أدواته وطور جيشه، وأرسله خارج الحدود مرة في ليبيا ومرة لباب المندب (وسط ظلال ما سمي حينها بعاصفة الحزم)، ورتب مناورات عسكرية مع دول عربية وأوروبية وأفريقية ومع قوى عظمى.. ويبدو اليوم كما لو كان يدرك – منذ يومه الأول في الحكم- أنه ذاهب لخيار الحرب لامحالة وسط الإقليم الذي تتغير قواعده تماما ووسط نظام عالمي جديد يشهد صراعات غير مألوفة، ويعي أن مصر مجرجرة إليها لامحالة.
يحتاج السيسي آلة عسكرية قادرة، وتكاتفًا شعبيًّا ضخمًا، ومناورات دبلوماسية واتفاقات من وراء ستار.. كي يؤمّن حصة مصر من المياه، أو على أقل تقدير يعطل ويسوّف المصير الذي يسارع آخرون لوضعنا فيه خلال سنوات قلائل.
وإذا كان قد توافر له العنصران الأولان، فهو بحاجة ضخمة ومتصاعدة للعنصر الثالث الذي ستضطر مصر فيه لتوظيف كافة مرتكزاتها العسكرية والأمنية والسياسية والدبلوماسية والإعلامية.
لا ينقص السيسي -بشواهد الأيام- شجاعة اتخاذ القرار أيا كان اتجاهه.
لكن المحك هنا في تبعات ما بعد الإقدام على أي عمل عسكري واسع أو محدود (ممثلا في ضربة مركزة لها أهداف تقنية تتمثل في الإضرار الفادح بجسم السد إلى الحد الذي يعطل المخطط لحين التفاوض المستقبلي من نقطة أقوى).
والتبعات كثيرة..
الضغط العالمي (إن دارت ماكينة المصالح التي تمثل إثيوبيا الطرف الظاهر فيها ضد مصر).. ووضع الجالية المصرية في إثيوبيا والجالية الإثيوبية في مصر،،، ورد الفعل الذي قد يقدم عليه أي حمقى من أي اتجاه.
لكن هل الحرب (العمل العسكري بالأحرى والأدق) هو الخيار الوحيد أمام مصر؟
تبدو الإجابة فوق المذهلة، حين ندرك أن الاشتباك العسكري داخل حدود البلاد وخارجها رغم وتيرته الفائقة، هو جزء من كل، وخيار حاسم، في ظل مسار آخر تتقنه مصر جيدا.
ففي العدوان الثلاثي، بدا الفخ العسكري الذي جهزته القوى المهاجمة أكبر بكثير من قدرات مصر آنذاك على الصد.
بيد أن صانع القرار المصري أدرك أن هذه ليست الحرب التي تتفانى فيها عسكريا حتى آخر جندي، وأناط عبد الناصر التحرك المصري لوزير خارجيته محمود فوزي.. البارع الذي لعبها بهدوء وثبات حتى قلب الموازين تماما لصالح مصر.
وانتهى المشهد بالإطاحة بأنتوني إيدن رئيس وزراء بريطانيا بعدما كان التاريخ يفتح ذراعيه لإيدن الذي كان مجهزًا تمامًا ليتحول لأسطورة مثل سلفه تشرشل.
وتحول عبد الناصر- بقدرته على التوظيف الدبلوماسي الهائل وإدارته للأزمة سياسيًّا- من حاكم بلد إلى زعيم إقليم.
وفي اتفاقية السلام وكامب ديفيد وما ترتب بعدهما من أزمة رفض الانسحاب الإسرائيلي من طابا.. خاضت مصر حربًا دبلوماسية ومشقة التحكيم الدولي على مدار 8 سنوات شاقة.. انتهت فيها بنجاح مبهر قطع دابر إسرائيل من سيناء وحفظ كبرياء مصر وأهداها فوق النصر العسكري نصر دبلوماسيا مؤزرًا ورفيعًا كشف جوانب القدرة المصرية في كل نواحيها.
يتقن المصريون التفاوض.. من أول الفصال في الأسواق حول سعر الطماطم وصولا لترسيم الحدود وإقرار الاتفاقات والمعاهدات الدولية.. متى صحت منهم الإرادة واكتملت لها أسبابها.
وعقل مصر لا يكف عن العمل، فهو العقل الذي ضرب الحفار الإسرائيلي على سواحل إفريقيا الغربية في عملية استخباراتية ملحمية، وهو الذي خاض الحرب مباشرة عدة مرات، وهو الذي خاض التفاوض الدبلوماسي الخشن مع الإنجليز - في قلب لندن- في 1919 كتدريب مبدئي لقدرات هذه الأمة فيما هي مقبلة عليه لمدة قرن، ومع الإسرائيليين والأمريكان والروس والفرنسيين والعرب والعجم وبلاد تركب الأفيال!
ولو اضطرت مصر للفعل العسكري، سيخوض المفاوض الدبلوماسي حربه الجديدة وقد استوفى أركان ما يسمى في أدبيات الدبلوماسية العالمية الحديثة "الحرب الأخلاقية" أو الحرب العادلة، وهو واحد من المفاهيم التي تطورت في أروقة المشهد الدولي بعد حرب كوسوفو.
ويعني باختصار غير محل أن الحرب قد تكون خيارًا عادلًا لإحدى الأمم، إذا استنفدت كل الحلول السلمية وبدا الخيار العسكري أخيرًا ومحتومًا ولا بد منه وللحفاظ على أرواح.
وتزداد قوته الأخلاقية بقدرته على التنفيذ المحدود والحفاظ على حياة المدنيين في الناحية الأخرى، وبقدرته على الحسم السريع دون مآس إنسانية كثيرة!
والمسألة هنا تعتمد على قدرة مصر على تأطير إثيوبيا في صورة "الدولة المارقة" التي تستحق ما جرى لها، أو أن تتهاون مصر ويتم تأطير القاهرة في صورة الغول المتوحش الذي يعيث فسادًا في إفريقيا.
***
ترتكز مصر على عقل استخباراتي يقظ.. وذراع عسكري متين.. ونفس تفاوضي طويل وحاذق.
الرهان كله الآن.. أي العناصر ستتقدم المعادلة وأيها ستفرد له المساحة الأوسع ليفيد بقية العناصر؟
هل هو البيان رقم 1؟ أم هو التصادف القدري الذي سيحيق بالسد ويحول دون تمام عمله وسنبتسم جميعنا في خبث ومكر له -ألا باركه الله من تصادف، أم هو زمن المفاوضات الذي سنرهق فيه الآخرين حتى نطال ما نريد؟