الشريعة الإسلاميّة والتحديات المعاصرة
الشريعة الإسلامية خاتمة الشرائع بلا نزاع، جاءت تلبي حاجات الناس في عصور لا يعرف عددها ولا عدد القرون التي تستغرقها إلى قيام الساعة إلا الله، مع تطور العصور ومستجداتها المتلاحقة في العصر الواحد، لذا كان من الضروري أن تكون شريعة مرنة، لتستوعب هذه المتغيرات المتلاحقة، والتي بالضرورة ترتبط بها أفعال وأقول تصدر من المسلمين المكلفين، فلا يناسب شريعة تصاحب أتباعها إلى قيام الساعة ثبات كافة جوانبها وإلا عجزت عن ملاحقة المستجدات والنوازل، كما لا يناسب شريعة تنتمي لدين سماوي التغيّر في كل جوانبها، حتى لا ينتهي الأمر إلى انفصالها عن هدي السماء وتحولها إلى تشريع من التشريعات الوضعية، لذا كانت شريعتنا ثابتة في بعض جوانبها كأصول العقائد من توحيد الله، وتصديق الرسل، وحتمية الموت، والبعث، والحساب، والجنة، والنار....، وبعض الأحكام العمليّة التي تلائم أحكامها كافة العصور ومستجداتِها، كفرائض الإسلام من صلاة وزكاة وصيام وحج، والمحرمات كالزنا، والقتل، والسرقة، والخمر، والربا، والظلم، وأكل أموال الناس بالباطل...، ومتغيّرة في فرعيات لا حصر لها، بعضها عُرف وقت بناء الشريعة وتنزل الأحكام، وبعضها يظهر في حياة الناس نتيجة تغير أنماط حياتهم ومستحدثات ومكتشفات علومهم البشريّة.
ولذا فقد أعجبني المؤتمر الذي عقدته كل الدراسات الإسلاميّة والعربيّة للبنين بالقاهرة، بالاشتراك مع مركز الحكمة الماليزي، وشارك في أعمال المؤتمر علماء من الأزهر الشريف ومن الجانب الماليزي، وقد أحسن المنظمون ووفقوا في اختيار عنوان المؤتمر:( الشريعة الإسلامية والتحديات المعاصرة) حيث إن الشريعة الإسلاميّة تواجه العديد من التحديات في عصرنا الراهن أكثر من أي عصر مرت به منذ نزول الوحي على رسولنا الأمين، وإنما كان المؤتمر مهما حيث إن موضوعه وما طرح في محاوره من بحوث للسادة العلماء المشاركين فيه أجابت على أسئلة يرددها البعض إما تصريحا وإما تلميحا ؛عن مدى قدرة الشريعة التي قاربت خمسة عشرة قرنًا من الزمان على تلبية احتياجات العصر بمستجداته وتطوراته من عدمه، وعن مدى قابلية الشريعة الإسلاميّة لتجديد الفكر الإسلامي، وعن الموقف من الموروث التشريعي من حيث الثبات والتغيّر... وغير ذلك من أسئلة تتداول في الأوساط الدينية والثقافية والإعلاميّة.
وأثبتت البحوث المشاركة في المؤتمر أن الشريعة الإسلاميّة وإن طالت بها القرون لم ولن توصف بالعجوز الذي تجاوزتها الأزمنة، فالشريعة بقسميها الثابت والمتغير تبدو في كل عصر وكأنها جاءت له، حيث إن الثابت فيها وهو قليل مناسب لكل زمان ومكان، ولم يقل عاقل واحد في عصر خلا إن ثابتا من ثوابتها لم يكن ملائما لعصره، ولم تتمكن عقول الحكماء والخبراء عن تصور حكم يتعلق بمسالة ورد فيها حكم ثابت أفضل للناس من الحكم الذي جاءت به شريعتنا، سواء أكان في العبادات أم المعاملات وحتى في الجنايات والحدود التي هي من العقوبات غير المحببة للناس، فأي حكم يردع عن جناية القتل العمد إلا القصاص إن تمسك به أولياء الدم؟ وقد تأكد عدم وجود حكم يلائم هذه الجريمة أفضل مما جاءت به الشرائع وفي مقدمتها شريعتنا الغراء ما كان من بعض الدول التي ألغت أحكام الإعدام لقسوتها – على زعمهم- ثم عادة من جديد تطبقها بعد ارتفاع مؤشر قتل العمد سريعا، وأي حكم يردع عن جريمة الزنا مثل عقوبتيه التي جاءت بهما شريعة الإسلام جلدا لغير المحصن ورجما لمن أحصن؟، وأي حكم يمكن أن يردع المفسدين في الأرض الذي أرهبوا الناس وسلبوا أرواحهم وأموالهم يضاهي حكم الله فيهم من القتل أو الصلب أو تقطيع الأيدي والأرجل من خلاف أو النفي من الأرض خزيا لهم ؟:{إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض}وأي عقل غير مختل يمكن أن يتصور حكما أعدل من قسمة المواريث في كتاب ربنا، والتي لم تبن على المعاني الظهارة للعقول، وإنما على واقع خفي وحكم مستترة ليست بعيدة المنال على إدراك العقول الراجحة؟
كما أن المتغير في تشريعنا وهو المتعلق بالفروع التي اجتهد في أحكامها سلفنا الصالح، وهو يتعلق بما لا يحصى من الفروع التي ظهرت في زمانهم، ولم تأت فيها نصوص في كتاب ربنا أو سنة رسولنا، أو جاءت أحكامها في أدلة ظنية الدلالة سواء أكانت قطعية الثبوت كآيات القران والسنة المتواترة، أم ظنية في ثبوتها أيضا كغير المتواتر من السنة النبويّة المشرفة، وردت هذه النصوص ظنية في دلالتها ليستنبط الفقهاء للمسألة الواحدة أكثر من حكم يجد بينها المكلف ما يناسب حاله، كمسح الرأس كاملا أو بعضه في الوضوء، وكون عدة المرأة ثلاث حيضات أو ثلاثة أطهار، ومن هذا المتغير ما لم يظهر في زمن سلفنا، ولكن قواعد شرعنا ونهجه في سن الأحكام في مسائل مشابهة يهدي علماءَ عصورنا لاستنباط أحكامها التي تناسبها، وهذه الأحكام الاجتهاديّة لسلفنا ليست ملزمة لنا إن تغيّرت أحوالنا عن زمان اجتهادهم فيها، ولنا أن نُعيد النظر فيها في عصرنا لنستنبط لها أحكاما جديدة، كما أن لخلفنا في العصور بعدنا أن يجتهدوا فيما اجتهد فيه علماء عصرنا أو العصور السابقة ؛إن رأوا متغيرا تغيّر يقتضي إعادة النظر فيما وصلهم من اجتهاداتنا والسابقين كتغير الأعراف، وهذا ليس رأيا شخصيا لي وإنما هو توجيه علمناه من نصوص شرعنا، ومن توجيه سلفنا الذين حذرونا من الجمود على ما تركوه من أحكام اجتهادية ظنية، وأن علينا أن نعيد النظر فيها كلما تغيّرت أعرافنا، ومن نصوصهم التي تكتب بمداد الذهب عبارة أحدهم وهو الإمام القرافي وهو يوصي المفتين بعده حيث قال في الفروق: (مهما تغير من العرف فاعتبره ومهما سقط فأسقطه، ولا تجمد على المسطور في الكتب طول عمرك، بل إذا جاءك رجل من غير أهل إقليمك يستفتيك، فلا تجره على عرف بلدك، وأسأله عن عرف بلده، وأجره عليه، وأفته به، دون عرف بلدك أو المقرر في كتبك، فإن هذا هو الحق الواضح، والجمود على المنقولات أبدا ضلال في الدين وجهل بمقاصد علماء المسلمين الماضين).
لقد بيّنت بحوث العلماء أن شريعتنا تعتمد آلية التجديد الذي كثر الحديث عنه، ولكن ليس بالطريقة التي يتبناها وينادي بها المتطفلون على موائد التشريع، ولا أولئك المفرطون من أهل الاختصاص، ولا الرافضون له بالكلية خوفا من التوسع فيه ليمس الثوابت، فالتجديد الذي هو لازم من لوازم شريعتنا تجديد في المتغيّر الذي لا يناسبه الثبات مع تغيّر أعراف الناس وثقافاتهم وأحوالهم، أما الأحكام القطعيّة فهي ثابتة في كل زمان ومكان، والاقتراب منها تبديد لا تجديد نرفضه في الأزهر الشريف، ونقف للعابثين فيه بالمرصاد حراسة لشريعة الإسلام من التخريب وطمس هويتها، وتشويه معالمها، حذرا مما وقع فيه أتباع شرائع سبقت شريعَتنا.
إن الأزهر الشريف من خلال جهاته المتعددة ومنها: هيئة كبار العلماء، ومجمع البحوث الإسلاميّة، وجامعة الأزهر العريقة بكلياتها التي قاربت المئة وهو مالا تملكه جامعة أخرى على أرض الناس، فضلا عن جهود المشيخة على كافة الأصعدة، بذل جهودا ضخمة لامثيل لها في عالمنا الإسلامي، مع تقديرنا لسائر الجهود المبذولة من كافة الدول والمؤسسات والجامعات في عالمنا الإسلامي، وذلك لإثبات أن شريعتنا قادرة على مواجهة التحديات، وتحقيق مصالح الناس في كل زمان ومكان، شريطة ابتعاد غير المؤهلين عن موائد التشريع، وترك الأمر للعلماء المؤهلين والمسلحين بوسائل العلم الشرعي الصحيح، والمتجردين عن الهوى والمصالح الضيقة، أما هؤلاء فسيقف لهم علماء الأزهر وكافة علماء المسلمين بالمرصاد، ينفون عن شرعنا تحريف الغالين وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين.