د. رامي هلال يكتب: اللعبة الفنية في"أربع جهات للوجع" للشاعر عمرو عامر
اللعبة الفنية فى ديوان: "أربع جهات للوجع" للشاعر عمرو عامر قد أفصحت عن نفسها في العنوان، فتصدر المكان لافته الديوان متمثلاً في دالة: "جهات"؛ فالمكان/ الوطن يحاصر القلب من جهاته الأربع فيكون: حلما، وشوقا، وسجنا، وطريقا، ومركزا للتدريب، وتصريح خروج، وعقد إتفاق , وأول الأوجاع وآخرها كما تنبئنا عناونين القصائد.
هذا الوجع/ الجرح كان تيمة أساسية في الديوان وأحد أهم المشاتل الشعرية التي ساعدت في الكشف عن المعنى بداخله، فالوطن يتشكل ويتضفر مع صورة المحبوبة بكل ما تحمله الحمولة الدلالة لكلمة المحبوبة من تتويعات مختلفة: من القرب، والبعد، والهجر، والوصل، واللوم، والعتاب حتى ما يقع بين المحبين من منافسات ودلال محبب رصده الديوان بحرفية عالية.
فنراه يقول في الإهداء:
انا م الوجع هبدأ واسمي الله
الجرح مفتوح للسما واصل مداه
من أي زاويه هتلمحه عينك؟
أنا مش بدينك . إنما بالله
رفقا بقلب ذاب من شكواه .
إن البدايات تنطلق من الجراح من الوجع وهو جرح طويل ممتد يصل للسماء سوف تلمحه من أي زاوية، فعليك بالرفق بهذا القلب الباكي الذي ذاب من الشكوى والأنين. وما يلبث الشاعر في الإهداء متحدثا عن الوجع حتى تطالعنا قصيدته الأولى وما يليها من قصائد مفسرة للوجع ومصنفة له إلى خطوط ذات ظلال وألوان داخل التجربة.
نبشت عنيكي ف جرح متخبي
فرجعت تاني لذكريات ايتام
بتنز روجي الجرح بالارتام (الديوان صـ 21 )
وعندما نساءل الديوان عن الأسباب الذي أدت إلى هذا الجرح وعمقته فنجده ينبع من انكسار الأحلام والوحدة فيقول في قصيدة الحلم:
الحلم لوح جرانيت وقع
والبحر حابس مركبي والريح
مش مستريح في وحدتي بالوجع
بشبه كتير للطير وهو جريح
والمخاطب "المشار إليه" الذي يلقي له الشاعر بسحر القول أو ما يحلو لبعض المذاهب النقدية أن يسمية ( القارئ الضمنى )، هذا المخاطب مراوغ لا يمكن حصر إشاراته ولا يمكن إطلاقه على مشار إليه بعينه، إنما يمكن لنا أن نراه بأكثر من وجه وأكثر من مدلول.
وتشكل تيمة الوجع من المحبوبة الأنثى تارة ومع الوطن تارة أخرى تلك الجراح والآلام الممتدة شطرت الذات الشاعرة وجعلتها منقسمة على نفسها وفي حالة من الحطام والشظايا.
لملميني من حطامي
وافرشيني ف المحال
ادهسي جرحي اللي نزفه كان حلال (الديوان صـ41)
وهنا وقفه نقدية مع بعض الملامح داخل الديوان على مستوى البناء الشعري.
- أن الشاعر جعل خاتمة الديوان ردا على مفتتحه؛ هذه الخاتمه كانت بمثابة رد عجز الديوان على صدره وهذا يدل على تنامي الخيط الدلالى الذى ينظم القصائد واتصاله داخل الديوان من أوله إلى آخره؛ مما يعزز الوحدة المضمونية داخل الديوان، ويزيد في السبك الفني بين أجزائه.
الكل موجود إلا أنا موجود ف باللك
ياللي أنت قلبك من دهب أنا برة ذلك
من ذاب عشقا في الذي
حسيت كأني في عشقها باملك مماللك
- أن الشاعر استخدم تقانة أسلوبية كانت معبرة جدا عن التجربة الشعرية، فالتجربة تحمل تيمات الوجع والانشطار، وهذه التقانة الأسلوبية التي ناسبت حالة الوجع وانشطار الذات إلى نصفين هي التجريد، والتجريد في البلاغة هو: أن تجرد من نفسك ذاتا أخرى فتخاطبها كأنها غيرك؛ مما يدل على أن الذات الواحدة قد انقسمت إلى قسمين وانشطرت في الديوان من أثر الوجع والألم فجاء هذا الأسلوب البلاغي الشكلي مرادفا للمضمون ورافدا له وعندما نحلل خطاب الذات في الديوان نجده يقول:
وأنا كلي شارد مني في الضلمه
ولا عادش باب الحلم في الإمكان
محسوب عليا وفاقد النية (الديوان صـ25)
يقول أبو علي الفارس: "إن العرب تعتقد أن فى الإنسان معنى كامنا فيه كأنه حقيقته ومحصوله، فتخرج ذلك المعنى إلى ألفاظها مجردا عن الإنسان، كأنه غيره وهو هو بعينه"، فالشاعر قد شطره الألم إلى شطرين وجرد من ذاته الحقيقة ذاتا أخرى شعرية قد أدار أمر الشعر عليها واستخدمها كتقنية تعبيرية عما يمور داخله من أحاسيس وعواطف وظهر ذلك جليا فالخطاب في قوله:
مع إنك مش آخر الأوجاع بس إنت أولها
جايز انتصر للقصيدة واقدر أكملها
(الديوان صـ9)
وحالة التشظى التى استدعت انشطار الذات موجودة فى جل قصائد الديوان وجعلت السيادة لضمير المخاطب المنفصل عنه مثل: (ك – إنت ) في المقطوعة السابقة.
3- أسلوبية التضاد والمفارقة
والتضاد في الديوان فضلا أنه يظهر المعنى ويوضحه، فهو نسيج تعبيري يتشكل به المعنى وفق حالة من حالات الحقائق المراوغة التى لا يمكن الإمساك بها إلا في حالة متضادة وتكون تعبيرا أمينا عن المعنى، كما أنه يدل من طرف خفي على تعميق حالة انشطار الذات الشائعة في الديوان.
سيبى قلبى يموت فى إيدى
واقبلي القسمة عليا
أصلى محتاج أختفى
لحظة ظهوري
وانزلي بتتر النهاية
أصلى محتاج أنتهى قبل البداية
"من غير إرادة وقوة تمنعني
لو مت فيكي أن شا الله ميت مرة
تحلو فيكي الموته لو مره
أصل الحياة من غيرك أصعب موت
ولا فيش تابوت بعد الفراق ساعني (الديوان صـ59)
ومهارة عمرو الشعرية أنه يعيد تعريف الأشياء داخل التجربة الشعرية وتتخذ لديه صفات ومعاني جديدة مما يدل على تشكل الموجودات وفق أدواته الفنية وخياله البصير. وهذه المهارة تعطي لقصيدة العامية بعض من التماسك لما لها من خيط فكري يمتد بالتأمل الشعري والفلسفة التي تخلقها الحالة الشعورية,
ففي قصيدته (السجن) الذي ينفي فيه التصور الشائع عن السجن لحساب الرؤى الجديدة
السجن طحن الزمن على عتبة المشاوير
السجن مش حبستي ورا كومة م المسامير
السجن مش أحجار ولا باب ولا سجان
ثم أخذ يوسع بخياله الشعري مفهوم السجن وينقله من مدلول قار في الوعى إلى مدلول جديد قابل لتأويلات عديدة من خلال الصور الجزئية التي تتنامي كي تكون صورة شاملة للمدلول الجديد وفق رؤيته الشعرية.
السجن طير انزعج من صقر واتخفا
شعاع أمل وانطفا من ربكة الدفة
عمود وحيد في الميدان
بيعششه الغربان بيبان عليه التعب من دوشة الزفة (الديوان صـ17)
ويمزج عمرو بين الواقعي واليومي والمعاش وبين الخيالي من خلال توظيف العادات الشعبية التي تدل على خصوصية التجرية العامية وارتباطها البيئي و(فالرحمة والنور) خبز مصنوع يسمى (قرص) يوزعها أقرباء الميت كل خميس عند المقابر صدقة على روح الميت لعل يناله منها رحمة من الله أو دعوة فقير تنير قبره , ويضمنها داخل القصائد مثل قوله:
هوزع قلبي رحمة ونور على حبك
وهقرا عليه
وهعمل زير من التفاهات رخام اسود
وهملى الزير باشعاري
ويجدل عمرو الواقعي بالخيالي والشعوري بالمحسوس والداخل بالخارج من خلال جمل شعرية ذات نفس طويل يقول في قصيدته (مركز تدريب):
الليل اللي بشب في يا قة قمصانه
وبفرق قدام عينه شربات لهفتنا
متصور إن البعد الطارئ في الظرف الطارئ
هيخلينا نغمض آخر حرف في حدوتة حكاينا المولوده وموجوده
بشدة في دفتر احوالنا الشخصية
من ست شهور (الديوان صـ55)
فنلاحظ التضفير بين: (الليل وياقة قمصانه، شربات لهفتنا، دفتر أحوالنا الشخصية )
إن جهات الوجع ديوان يعاتب الوطن عتاب المحب ويصنع من الأوجاع والاحلام المكسورة أشرعة بيضاء للأمل ويحول انشطار الذات إلى قصيدة عشق للوطن تدفع الشاعر دفعا أن يعزف لحنه وسط النشاز وأن يقبض على فنه لأنه الخلاص
الرتم نشاز
وأنا خارج عن تقاسيم الكورس
وأنا وحدي أصم
وبعزف لحني (الديوان صـ97)
لسوف يصدح اللحن عاليا وربما يتوحد الكورس وينسجم الرتم ويفتح الشاعر أذنية لنغمة جديدة هذا الشعب قادر على عزفها.