عاطف محمد عبد المجيد يكتب: صحراء العابرين.. إدمان للحزن وللعزلة
إذا نحينا جانباً القواعد الشعرية المتعارف عليها، ووضعها الأقدمون، نجد أن كل شاعر في العصر الحديث، أو الأحدث، يرى الشعر من منظوره هو، قابلاً أو رافضاً وجهات النظر الأخرى. وهكذا يحاول كل شاعر أن يبني عالمه الشعري وفقاً لقواعد يضعها هو بنفسه، وأطر يسمح لنفسه بالحركة داخلها، تبعاً لرؤيته الجمالية وفكرته المسبقة عن الشعر.
وإذا حاولنا أن نتعرف إلى وجهة نظر طارق فراج في ديوانه صحراء العابرين، الذي صدر ضمن سلسلة تجليات أدبية عن الهيئة العامة لقصور الثقافة منذ سنوات، فإننا نجد أنه يرى الشعر في بساطة السرد الشعري، في تكوين الجملة الشعرية السهل، الذي يجعل المتلقي يظن لوهلة أولى أن ما يقرأه كلام عادي، وأنه يمكنه أن يكتب مثله، من دون جهد، غير أن الحقيقة عكس ذلك، لا سيما أن طارق فراج يكتب بطريقة السهل الممتنع، في انتقاء الصورة الشعرية البسيطة ظاهراً، العميقة باطناً، ويضاف كل ذلك إلى ميله ناحية الفكرة الشعرية التي تكاد تكون غير مطروقة. كذلك لا يحتفي طارق فراج إلا قليلاً بالمجاز الذي يحول دون الولوج إلى عمق النص الشعري، مستخدماً صوراً شعرية سهلة التلقي ولا تقترب في الوقت ذاته من المجانية. وبعد قراءة أولية للديوان نجد أن الشاعر يكرر مفردة الصحراء في الديوان إحدى عشرة مرة، سبع منها في القصيدة الأولى:
كثيرة هي السنوات
التي قضيتها على دروب الصحراء
جيئةً وذهاباً... نظر الماء في قلق للأسفل
وحين رأى اتساع الشقوق في الصحراء
تملكه الخوف... الصحراء لا جدران لها
الصحراء امرأة ولود... تنظر لي وتبتسم
وخلفها الصحراء شاسعة بلا حدود
غير أن تأويل الصحراء يختلف من موضع لآخر، فمرة تعني الصحراء العزلة، مرة تعني الاتساع والحرية والانطلاق الذي لا يحده شيء، ومرة أخرى تعني النماء والتكاثر. والصحراء هنا هي عالم قائم بذاته، حاول الشاعر بإقامته على مقربة منه أو على حدوده أن ينهل منه، لا سيما وأن هذا العالم شديد الاتساع، يتيح للشاعر فرصة للتأمل واقتناص أفكار طازجة، ربما لا يتسنى لمن يعيش في عالم مغلق أن يقتنصها أو يمسك بها. وإلى جانب مفردة الصحراء يستخدم الشاعر مفردات الغربة والخوف والوحدة. كذلك نجد أن معظم قصائد الديوان التي يقسمها الشاعر إلى مقاطع يظهر فيها حزن شفيف، إما بذكر مفردته صريحة، أو بذكر مفردات من حقلها، كالبكاء والدموع.
يقول الشاعر في مقطع سماه الحزن من قصيدته ألم خفيف:
يبدو أنه وجد ملاذاً طرياً
في أعماقي
فلجأ إليه
متوسداً ذراعه
وكلما أفاق من غفوة
أتخبط في الحوائط كالمجنون.
وفي مقطع آخر يقول:
نظر الحزن إلي
ضحك حتى استلقى على ظهره.
ويقول في مقطع آخر:
أنا الذي أدمنت الحزن
حشوت به تبغي ودخنته بشراهة
خبأته تحت جلدي
لأنني خفت عليه من نظرة شاردة.
أما في مقطع الشاعر فيرسم فراج صورة له واصفاً إياه بأنه يحتاج فعلاً في واحته النائية إلى تمشية بتؤدة في الثلث الأخير من الليل تاركاً آثار خطواته على تراب شوارعها غير عابيء بالبرد ومبتهجاً بقطرات من المطر التي تسقط على استحياء مدركاً أنه لن يقابله في تلك الشوارع النائمة سوى ظله الحميم، وبعد أن يشعر أخيراً أن العالم قد أصبح في قبضته يتقافز قليلاً. هنا لا يرسم الشاعر صورة له هو فقط بل يرسم صورة للعالم الذي يحيط به / عالم الصحراء المترامية الأطراف والتي تركته يمارس طقوسه تلك في هدوء، من دون أن ينغص عليه وحدته / عزلته أحد.
ختاماً أكرر أن طارق فراج يبدو محتفياً في ديوانه هذا بالصورة الشعرية الجميلة والفكرة التي تفوح ذكاءً يُلقي دهشة كبيرة على المتلقي حال تفاعله معها، مع غوصه في أعماق النفس الإنسانية، محاولاً سرد وقائع وطقوس حياتية تتماثل إلى حد ما بين كثيرين يعيشون الحياة نفسها وإن اختلفت تفاصيلها.
حين تتحطم قدماي
وأحتاج سُلماً
أصعد به فوق كبوتي
امنحيني يدك
لا تخافي
لن يسقط العالم فوق رأسينا
معك.. أنا جذوة مشتعلة
وحلم يمشي على قدمين.