الأربعاء 27 نوفمبر 2024
More forecasts: Wetter 4 wochen
رئيس التحرير
محمود المملوك
أخبار
حوادث
رياضة
فن
سياسة
اقتصاد
محافظات

"صورة زفاف".. قصة قصيرة للكاتبة أميمة جادو

أميمة منير جادو
ثقافة
أميمة منير جادو
الأربعاء 28/أبريل/2021 - 12:28 ص

ما الذي استنفر هذه الذكرى البشعة من نفسي بعدما ظننت أني ردمت عليها في بئر سحيقة؟

لست أدري! 

منذ زمن بعيد، كان يوم زفافي فرضا، لكني كنت أصرخ أصرخ:

( كيف أُزَفّ إليه؟ كيف؟)
هكذا صرخت بهم ولعنتهم جميعاً قبل أن أجن …
ومع ذلك وقفت أكمل زينتي برغبة وإقبال واهتم بكل التفاصيل الصغيرة مثلي مثل أي عروس تنتظر عريسها … ارتديت الفستان الواسع الطويل المنفوش وقد ضاق على خصري ليتسع إلى أقصاه فوق ممر الأرض الذي أمرت بفرشه هو الآخر بسجاد أحمر مثل حفل أسباني في القرن السابع عشر لأميرة من القصر الملكي …

 أعجبني شكل فستاني المنفوش جدا فوق (الجيبونة) الهيكل الداخلي ذات الأسلاك الدائرية الخفيفة التي تحفظ له نفشته دائماً مثل التمساح البحري المفتوح فمه على الدوام، لأن طائر الزقزاق يقف فيه منظفا له أسنانه فكلاهما يستفيد ويتعايش مع الآخر – هكذا درسناها في علوم ثانوي على زماننا منذ أكثر من ثلاثين عاما , ربما تغيرت المناهج أكثر من مرة , لكن تبقى هذه المعلومة الأقصوصة اللذيذة ثابتة في الذاكرة , لماذا أستعيدها الآن تحديداً؟ هل لأنه يجب عليّ أن أتعايش مع هذا الموقف وليس من خيار آخر؟ ربما.
أنا في انتظار العريس الذي أرفض أن أُزَفً إليه … وتتفق معي أمي بعدما همست لي بحكمة على غير عادتها : (لابد أن توافقي حتى تتصورين معه حاملة الزهور.. تجلسين على المقعد وهو يقف بجوارك .. خلفك قليلاً يحيط كتفيك بيديه، فقط من أجل الصورة لإنقاذ الموقف لتضعينها في حقيبتك وتخرجينها لكل من يسألك أو لا يسألك، تخزقين بها عينه، حتى لا يشمت بك أحد، أجل سيرتدي "خالك أحمد" البذلة والصديري، وربطة العنق فيزداد وسامة على وسامته وطوله الفارع يمنحه هيبة ووقاراً بدلاً من هذا الذي لا يستحق أظفرك، وتمتمت وهي تستدير: (لا دم عنده؟ هل هذه أفعال أولاد الأصول؟) سمعت همسها المغتاظ ولم أعلق فأنا الملومة في اختياري أولاً وأخيراً، ولم أسمع كلامهم منذ البداية، حين قال كبار العائلة : لن ينفعك... لا يناسبنا ... ! ومع ذلك اخترته رغم رفضهم جميعاً وتَحَدَيتُ الجميع وحددنا موعد الزفاف ...وللأسف خذلني و لم يأت ... مثله مثل أي نذل في أفلام السينما المصرية ... قالت أمي : خالك أحمد موجود ... لن ينقذ الموقف إلا هو ... صرخت فيهم جميعاً : هل أنتم مجانين؟ وكيف؟ ومع ذلك مضيت أكمل زينتي وأهتم بالتفاصيل الصغيرة مثلي مثل أي عروس، الفستان الواسع الطويل المنفوش لكنه لم يكن أبيض؟ كان أحمر، لماذا؟ لا أدري . 

هل كان بلون الدم النازف من جرح قلبي؟ ربما .
جمعت شعري كله وعقفته للخلف ووضعت عليه إكليلاً من زهور صناعية بيضاء جميلة، بدا الفل والياسمين على شعري وكأنه باقة حقيقية، جذبت بأصابعي بعض خصلات من أمام لتعلو فوق جبهتي مثل ممثلات السينما، بحثت كثيراً عن قرطي لأرتديه فلم أجده، أين ذهب قرطي؟ لا أدري، تجاهلت ولم أهتم مؤقتا.

 حضر خالي أحمد الوسيم ذو الوجه السينمائي "الفوتوجونيه" بطوله الفارع وبذلته الأنيقة وربطة عنقه تحت الصديري في عز حر يوليو، لإنقاذ الموقف، وعندما ساقني لجواره استعداداً لالتقاط الصورة اكتشفت أن عيني بدون كحل فقد غسلتها الدموع وبدت حمراء مكسورة.
استأذنت منه لأضع الكحل ثانية، أمسكت بقلم الكحل، وجدته أزرق وليس أسود، كيف كان أزرق و مقصوفاً، صرخت في أختي التي حملت لي كل أقلام الكحل و كلها ملونة ومقصوفة ولا يوجد من بينها قلم أسود واحد، أخذت الأزرق أحاول أن أبريه، وأمي تعصف في وجهي وتزمجر كي لا أبريه وأن استخدمه هكذا , صرخت فيها : هل أخزق به عيني؟ لم أستمع إليها وقشرته من مواضع القصف بيدي حتى لاح سنه الأزرق الطري، لكن عندما بدأت أستخدمه تكسر السن في عيني ولم يضع الكحل، عاندت ولبثت استخدم السن المكسور حتى أكملت الكحل، بل وزدت عليه فوق جفوني، ثم بدأت أُزَرقّ تاج إكليل الزهور هكذا بالنيلة الزرقاء، عندما منعوني لم أمتنع، كان منظري يسوء، وأنا أُزَرِق جفوني وأُزَرِق أيضاً هيكل إكليل الزهور حتى بدت زرقاء ...
تقدم مني خالي أحمد مرة أخرى يحثني أن أقف بجواره ليلتقطوا لنا الصورة المنقذة، بعدما أستعد هو ووقفت لجواره ربما لثانية واحدة اكتشفت أني لم أجدد وضع الروچ (أحمر الشفاه) بعدما مسحته الدموع ولم يبق منه أي أثر أيضا، عُدت أهرول إلى أختي الصغيرة الجميلة التي ما زالت تحمل علبة زينتها، بحثت فيها عن قلم روچ أحمر مناسب للون الفستان، كانت الألوان كلها فاتحة وغير مناسبة اندهشت لأن لون بشرتها بيضاء مثلي وهذه الألوان لا تليق عليها سألتها : عن الأحمر القرمزي والأحمر الدموي والأحمر النبيتي، قالت وهي تهز رأسها بكل أسف : لا توجد عندي إلا هذه الألوان فقط ... هكذا كلها باهتة وبلا لون حقيقي، كدت ألقى بكل إصبع روج من أحمر شفاه أمسك به ولا يناسبني في الأرض، لكني تمالكت أعصابي رغم غيظي الشديد.
لا شيء مناسب هذه الليلة أبداً ... بدءاً من العريس، ومروراً بالكحل وأصابع أحمر الشفاه وانتهاء بمكان التصوير الذي احترنا كثيراً في زواياه حتى تطلع الصورة حلوة، ذات خلفية جميلة وأنيقة.

أخيرا وجدت إصبع روچ برتقالي ... اللون الوحيد الذي أكرهه جدا ولا أطيقه أو أحتمل رؤيته فوق شفاهي، ومع ذلك طليتها به، صار منظري غريباً وشاذاً ،

كل شيء كان شاذا، عريس لا يحل لي شرعاً "خالي"، وفستان زفاف أحمر ،وروچ برتقالي، وكحل أزرق، وظلال فوق العيون داكنة الزرقة ذكرتني بالنيلة التي كانت تدهن بها الأرامل الصعيديات وجوهن ليلة فقد الزوج، لقطة لم تسقط من ذاكرتي في بدء الستينيات، كنت طفلة لا أتجاوز ربيعي العاشر .

 بدأ خالي أحمد يضيق بالموقف ومعه الحق ... فهمته بسرعة وذهبت أهرول إليه وأجرجر فستاني وأحمله عن الأرض حتى لا أقع على وجهي ... رغم أني وقعت فعلاً... انتصب في وقفته، وجلست على المقعد بجواره ... لم تعجبني آية خلفية في الشرفة ( التراس ) التي اختاروها لنا كأفضل مكان للتصوير(التي يسمونها الآن سيشن). 
ومع ذلك حملت الزهور بين يدي مستعدة للتصوير، عندما أحاط خالي يده اليمنى بكتفي .

 التهب جسدي كأن حرائق اشتعلت به وصرخت فيه : أبعد يدك عني، أبعدها، خاف مني وارتعب واختلج بطيبة وقال مرتبكاً : هل أضعها بجواري وكأني واقف في طابور نظام عسكري كما يفعلون معنا في الجيش ؟
قلت له بعصبية : ليس مهما ... ثم تداركت الموقف بسرعة وقلت : ضعها بحذر وإياك تتخيل أنه زواج حقيقي ... إنه من أجل الصورة فقط ...أتفهم ؟

 وبينما نحن نستعد للقطة، و في الثانية الأخيرة نفرت من مقعدي وقلت : أُفَضِل أن أقف ... جَزَّ المصور على أسنانه وقال نأخذ لقطة واقفة ... ولقطة جالسة... ولقطات أخرى... لا يهم ...
نهرته هو الآخر: لكن الخلفية لا تعجبني ... لا تبدو فيها آية زهور أو حديقة أو منظر طبيعي !؟ هززت رأسي أنفي وأعترض على الموقف برمته .. تبرم خالي أحمد واختفى من جواري ولا أدري أين ذهب؟ 

 ربما دخل ليستريح مني في حجرة أخرى..

 سمعت في هذه الآونة حواره مع والدتي ينم عن ضيقه بربطة العنق ويحاول فكها وأمي تحايله وترجوه ألا يفعل حتى نأخذ الصورة .. في تلك الأثناء حضر عريسي الحقيقي (عريس الغفلة الهارب)

هكذا رأيته واقفاً أمامي ... نظرت إليه بفرح طفولي، ولكنه لم ينظر إلي البتة ... ألا ترى فستاني؟ تسريحة شعري وجسدي الممشوق تحت الفستان؟ وإكليل الزهور على رأسي ؟

 لم ينظر نحوي البتة ... رغم أنه كان يتحدث إليَّ ...كان يتحدث في أمرٍ آخر بعيد كل البعد عن العرس واستعداداتنا وتجهيزي وملابسي وهيئتي والصورة التي يجب أن يقف فيها هو بجواري ...
الغريب أنه حتى لم يعتذر عن عدم حضوره ... والغريب أنه أتى بملابس عادية وليست رسمية لا تناسب الفرح ولا الصورة ... كان لا يبدو متجاهلاً الأمر برمته فقط بل بلا مبالياً أيضاً ... وكأنه ليس طرفاً فيه .
كان ينظر في الجهة الأخرى وهو يحدثني في أمر لا يمت إلينا بصلة، وفي صوته تجاهل ولا مبالاة شرخت كل شحنة الفرح التي لقيته بها وتهللت كطفلة لمرآة ...، نادى المصور : من سيقف لجوارك بالصورة؟ والخلفية؟
قلتُ بانكسار : لا عليك ... الكمبيوتر يفعل أي شيء الآن .... وسقطت الزهور من يدي..

 

تابع مواقعنا