رضا يونس يكتب: كابتن أنوش.. رحلة العودة
في رحلة العودة من الإسكندرية، استقل قطار المنصورة المكيف بتذكرته ذات الخمسين جنيها، لا أدري سببا لتمسكي بالمقعد رقم 33 بات تميمة حظ رحلتي المزدوجة بساعاتها الثمانية ذهابا وعودة.
منذ أول رحلة لعروس المتوسط أحرص على الحجز قبل السفر بأسبوع كامل لاختيار ذات الرقم الأثير المطل على يمين العربة بجوار الشرفة.
كانت الرحلة موفقة للغاية كسابقاتها، وكيف لا وأنا أحمل في حافظة نقودي كنزي المتجدد (الرقم33).
أصابني بعض إرهاق، فاستسلمت للسلطان- نعاس- ربما مرت نصف ساعة مكيفة، أفقت من قيلولتي المبتورة على صوت بائع جائل استقل القطار من محطة دمنهور؛ ليجوب الثلاث عربات المكيفة، يصيح بطريقة مسلية نوعا؛ للدعاية لمنتجاته، يغني أنشودة فلكلورية، هو نفسه مؤلفها وموزع ألحانها.
المدهش أن الركاب يتجاوبون معه، فيتمايلون طربًا مع هذه الأنشوده الفريدة.
يا لصوته المانح للرزق في المسافة من دمنهور إلى طنطا!
الأكثرغرابةً، أن الركاب لا يملون منه، بل يتوسلون إليه لتكرار هذا (الكوبليه) بل ويطالبونه بالاستمرار؛ لإمتاعهم، فيطيعهم حبًا وكرامة ورزقًا.
فجأة توقف هذا البائع الجائل عن الغناء، كان كمن أصيب بمس جعل الكلمات تقف في فمه.
مبحلقا بزاوية 45 ناحية رقمي الأثير، بدا لي أنه ينظر إلى جاري الـ(34) يقترب أكثر فأكثر، يزداد اتساع مقلتيه، جاري لا يبدي له بالا، ولا يحرك ساكنا.
إنه يرمقني أنا! يتوقف.. ينحني قليلا.. يمناه تعانق يسراه أعلى صدره جهة اليسار قليلا، متخذتين وضعية التقاطع، صوته يتردد في الخروج، يدعوني للمصافحة.
لكن ماذا يقول؟!
كابتن أنوش- لا لا.. لست أنا.. أنا كابتن يونس، ربما أخطأ في تهجئة اسمي فمخارج حروفهما متقارب؛ ولكن من أين له الحصول على اسمي؟
لا أحمل بطاقة تعارف على صدري.
يكرر النداء مندهشًا: كابتن أنوش معانا في القطر؟!
ده يوم سعدي.. أستاذ بيومي فؤاد في نفس العربية اللي أنا فيها... أنا مش مصدق نفسي.
حاولت جاهدًا أن أصحح سوء ظنه، يبدو أنه عُمِّيَ عليه الأمر، لم يمهلني فرصة لأصحح خطأه وسوء فهمه.. ارتفع صراخه كأنه اكتشف قارة سابعة.
الركاب يتجمهرون، أحاطوني من كل جانب، حتى صرت كحبة قمح وسط كومة قش كبيرة.
عبارات الثناء تترى على هيئة موجات، للترحيب ببطل القطار المزعوم.
ارتفعت الأهازيج التي غطت على محاولتي تصويب ما افتعله هذا الجائل.
صرخت: يا ناس يا ناس، من فضلكم اسمعوني.
صخب وفوضى عارمة.. لعلني الآن التمس الأعذار لهؤلاء الذين امتلكوا شطر كل نعيم، الآن وفقط تغيرت زاوية رؤياي.
من النادر أن يتواضع نجم تليفزيوني وسينمائي على قمة هرم الكوميديا لركوب مواصلة ما وسط العامة.. يا لتواضعي!
من خلف التجمهر أحدهم يعلن استسلامي ورفع منديلي الأبيض يقول : هو بغباوته.. بنضارته بكرشه بمناخيره الكبيرة... تاهت محاولاتي وسط أصوات فلاشات الكاميرات؛ احتفاء بالكوميديان المزعوم.. غبت عن وعيي برهة، يحدث التحول، يرتفع ادرينالين حلمي الجائع، عشت ما حرمت منه نصف قرن لمدة نصف دقيقة، من جديد أهبط من الفردوس إلى الوادي.
استرجع ما قبل الحدث، ماذا لو سعيت لإخبار هؤلاء أنني الكاتب المغمور، والمعلم المقهور الذي تخرج على يديه عباقرة كثر صاروا سدنة يخدمون الوطن في مراكز مؤثرة.. يقيني أنهم سيزدادون تقديرًا لي، فيحملونني إلى عنان أكتافهم ويرفعونني إلى أعناقهم ثم يبلغون عني شىرطة السكك الحديد، بعد أن يلقونني أرضا؛ لأنني أنتحل شخصية فاشل!