الأحد 24 نوفمبر 2024
More forecasts: Wetter 4 wochen
رئيس التحرير
محمود المملوك
أخبار
حوادث
رياضة
فن
سياسة
اقتصاد
محافظات

ذَاتُ السَّاق.. قصة للكاتب محمد الدفراوي

الدكتور محمد الدفراوي
ثقافة
الدكتور محمد الدفراوي
الأربعاء 07/أبريل/2021 - 06:56 م

بعد ساعةِ من المشي، كنتُ أشعرُ بالحاجةِ إلى الجلوسِ بعدما أخذَ مني الإنهاكُ مأخذَه، تركتُ جسدي يسقطُ على المقعدِ الخشبي، نُصِب للمنهكين، نالت منه عواملُ الزمنِ.

 جلستُ شابكاً أصابعي في صمتٍ رهيبٍ، أوزّعُ نظراتي من غيرِ عدلٍ بين سياراتٍ تسحق أطناناً من الأسفلتِ وأرصفةِ سحريةٍ وغيومِ غير نقيةِ تمامًا، وعابرين في عابرين جاءت بهم الحياةُ بشكلٍ غير مقصودٍ أمامي، لا يثيرونَ ضجّةً كأنهم تأخروا في العودةِ إلى بيوتهم.

 كنتُ تائهًا في وحدتي أجتازُ الوقتَ بمشاعرٍ مختلطةٍ، محترقةٍ، أخافُ أنْ يفاجئني أحدٌ مستفسرًا عن هُويّتي، فلا أجيبهُ، ولستُ قلقًا من ذلك فأنا أحملُ في رأسي ضوءًا من سيّارةٍ عابرةٍ يولدُ في أكمةٍ ملتفةِ الأشجارِ، ولستُ نافلةَ العالمِ ولا شيئًا زائدًا عليه.

 قُبالتي وقفت ضيئلةُ الحجمِ، تتفرَّس المَارّةَ واحدًا واحدًا، تترّصدُّ ردودَ أفعالِهم في حذرٍ وارتيابٍ وهي تمزّقُ النهارَ بنظراتها الحيرَى إربًا إربًا، فحياتُها محفوفةٌ بالمخاطرِ والعالمُ مصيدةُ كبيرةٌ، تُعلِّقُ إحدى ساقيها في ريشِ صدرِها، بدتْ لي جائعةً متعبةً، قلبُ الحقيقةِ أنها فتحت عيني على عالمٍ عظيمٍ غير عالمي!

مع الوقتِ بدأتُ كذلك أتضوَّرُ جوعاً، فالفكرُ والوحدةُ يقوضان المعدةَ ،اللعابُ يملأُ صحنَ فمي من روائحِ الطعامِ المتناثرةِ كالغبارِ، لكني لا أرغبُ الآن في الانصرافِ عنهَا لأي شيىء، فحبَّات البُرِّ يلمعنَ بالضوء عند أقدامِ العابرين، وتتسعُ حدقتاها كالصحن تملؤه الحبات ُ اللاتي يُظهرْنَ أفضلَ ما لديهنَّ، تترَّقب بساقٍ مُعلَّقة ٍحتى يفرغَ الطريقُ و تنتهي عمليةُ سحقِ الحبِ ،فيتسنى لها أن تلتقطَها كمن لم تتذوق طعاماً منذ أيامِ، تنزلقُ الحبَّاتُ باندفاع من أعلى المنقارِ إلى مؤخرةِ العنقِ لتستقرَّ في تجويفِ الحويصلةِ، صومعةُ الغلالِ، وكلما امتلأت حبّاً ازدادت اتساعاً، فتدغدغني ولا أحوِّل عيني بوقار، كلُ شيئِ هاديء، تتوقفُ كلما سمعت حِساً وكأن العالمَ يتآمرُ ضدها تحدِّق بعيون مفجوعةٍ و أنفاسٍ متسارعةٍ يسمحان لها بتحديدِ اتجاهِ الصوتِ بدقةٍ متناهيةٍ ، كنت أشعرُ بالاعتذارِ نحوها ،فهي سَخيّةٌ منذ القِدم لا تفترُ عن تقديمِ كلَّ أشكالِ المعونةِ للبشرِ، فلا يُحْصُون لها خيراً، في الأثناءِ حطَّتْ بالجوار حمامتان ،اقتربتا منها كأنهما يتعرفان عليها، بادرها أحدهما: يهدلُ ويهدلُ بصوتٍ منخفضٍ ناعمِ مسجوعٍ كنشيدِ إنشادٍ يرفرفُ بجناحيه ،ألزمها مكانَها! 

كلما تحركت حاصرها في أي اتجاه بغرض إذعانِها!

كانَ جوعي يتباطأ شيئًا فشيئًا، ويسري الدمُ في عروقي ،فذاتُ الساقِ المعلَّقةِ أبقتني - في هدوء - مُنسجماً مع العالمِ من حولي، فليس بالضرورة كل من حَملَ رأساً بين كتفيه صار لي مُعلماً ، بعدَما ألقتْ في رأسي جملاً ومعان جميلةً، شكَّلتني في تلك اللحظة بلا قصدٍ، وارتشفتها كشراب مُسكَّرٍ في فمي، يتغلغل في قلبي وعقلي وروحي، فالجمال الحقيقي يأتيك من الخارجِ.

تابع مواقعنا