السبت 30 نوفمبر 2024
More forecasts: Wetter 4 wochen
رئيس التحرير
محمود المملوك
أخبار
حوادث
رياضة
فن
سياسة
اقتصاد
محافظات

وأنتَ.. أين كنتَ؟.. قصة قصيرة لرضا الحمد

الكاتب رضا الحمد
ثقافة
الكاتب رضا الحمد
الأربعاء 07/أبريل/2021 - 06:06 م

عندما كنتُ صغيرا ذاع بين المعلمين وزملائي بالمدرسة الابتدائية أني التلميذ النابغ المستقيم، حتى كان المساء الذي جاءت فيه إلى قريتنا الغجريات الغوازي لترقصن في عرس ابنة العمدة، كن ثلاثة اعتلين الخشبة المرتفعة التي صُنعت لذلك، وكن بلا ملابس إلا ما يُخفي العورة وقليلا مِن الصدر، أمطرت القرية والقرى المجاورة كل الأهل هناك في الجرن الواسع أمام بيت العمدة، وما إن صعدت الغوازي حتى تعلقت كل العيون بهن، لا شك أن كل رجلٍ من هؤلاء ظل يقارن في مخيلته ما ستكون عليه أفخاذ وصدور تلك الغوازي مقارنة بامرأته التي تركها خلفه حبيسة بيته بينما خرج مجاهرا أنه ذاهبٌ إلى الغوازي، ولم يكن المراهقون بالطبع أقل مِن هؤلاء، حتى الصبية قد تركوا أنفسهم وأرواحهم التي لا تزال طاهرة بعد لتتلوث بمثل هذا ، وأما عن معلمينا فقد كانت مكانتهم لا تزال محفوظة في النفوس، كنا نوقرهم ونعظمهم وإن رأيناهم غارقين في الخطيئة، وإنه لمسلكٌ غريبٌ لنا أشبه بالتقديس الأعمى، بل كنا قبل تلك الليلة نخشى أن نتواجه مع أي معلمٍ لنا بالشارع، فإن حدث كنا نتعذر بالمرض فنغيب عن المدرسة خوفا من الذهاب في اليوم التالي فيرانا فيكون (المد على التخشيبة) في انتظارنا، إذ كيف لنا أن نسير بالشارع هكذا ونذهل عن استذكار دروسنا؟.. كنا نخشاهم حقا خشيةَ خوفٍ وتوقيرٍ معا.


وفي سهرة الغوازي تلك كان معلم الصف السادس، ذاك الغليظ الوقور المتجهم يجلس أول الصفوف أمام أجساد الغوازي بعينين بارقتين ، لكن يبدو أن إحدى العينين كانت معهن والأخرى كانت ترقب مَن يفعل فعله مِن تلامذته المنتثرين بين الحضور، وكانوا كثيرين، وكنتُ منهم.


وانتهت السهرة ، وهرعنا إلى البيوت لننام ، ثم كان الصباح في اليوم التالي ، حيث ذهبنا متباطئين إلى المدرسة وبنا بقية مِن الرغبة في النوم، وبعد أن أخرجنا الأقلام والدفاتر ووضعنا حقائبنا خلف أظهرنا إذا بصيحةٍ عاليةٍ من ذاك المعلم المتجهم مع ضربة عصا على مقعدي الأمامي .. قال لي:
_ قف يا ابن الحمد وأخبرني مَن كان من زملائك بسهرة الأمس أمام الغوازي الراقصات؟
وقفتُ مضطربا وبعضي يضرب بعضي ذاكرا أسماء سبعة مِن زملائي، لكن أحدهم كان غائبا، فقال المعلم: 
- مَن يأتيني به قبل أن أقوم مِن مكاني؟

أجبت: أنا 
فأمرني أن أذهب لبيته سريعا فأعود به، وكان.


وكان المعلم قد أعد سبعة من (الدكك)  وسبعة من زملائي للإمساك بأرجل السبعة المغضوب عليهم ، وكان بالطبع يُمسك بالخيزرانة اللاسعة في يده .. خلعوا أحذيتهم في صمتٍ وخنوع فضربهم جميعا على بواطن أقدامهم بالتساوي ضربا موجعا بلا رحمة ، ثم أمرهم بالركض في دائرة خلف بعضهم حفاة حتى لا تتورم الأقدام  ، وكنتُ أقف أشاهد ضربهم وأسمع صراخهم متوجسا مِن تلك النظرات التي انطلقت مِنهم ، فلا شك أن نفس كل منهم كانت تتساءل : _ وما بال رضا الحمد؟!


لكن لم يكن أحدٌ منهم ليجرؤ على أن ينطق معترضا على شيء للمعلم قد سها عنه ، لكن من قال إن المعلم قد يسهو عن إيقاع العقاب بأحد؟ فقد حدث ما كنتُ أخشاه ، ويا لهول ما حدث!.. صاح المعلم بعد أن انتهى منهم:
_ وأنتَ.. أين كنتَ يابن  الحمد؟
تلعثمتُ وأردت أن أنطق كذبا بأي شيء ، لكن كان هناك شهودٌ سبعة قد جُلدت أقدامهم للتو على أنني كنتُ بينهم  ، فظللت صامتا أقدر في نفسي ما يوشك أن يقع بي، ووقع ما قدرته، فكان دوري على (التخشيبة) .. تألمتُ كثيرا مِن ألم الضرب، لكن ألم نفسي كان أشد، ذاك لأن سؤالا كان بداخلي وظل بداخلي ، لم أستطع توجيهه للمعلم: أين كنتَ أيها  المعلم؟!

تابع مواقعنا