كيف أثر السجن في التجربة الشعرية عند محمد الماغوط؟
أثَّر السجن في تجربة الشاعر السوري الكبير محمد الماغوط، الذي تحل ذكرى وفاته اليوم من عام 2006، حيث إن حادثة السجن لدى الماغوط ساهمت في تنمية حسّ الخوف والتمرد عنده، فقد سجن مرّات عـدّة، أيّام مقتل عدنان المالكي، وكان الماغوط آنذاك عضوا فـي الحـزب السوري القومي الاجتماعي، ولكنّه لم يقرأْ صفحة واحدة من مقرّراته على حـدّ زعمـه.
وحسب الباحثة "إيمان عبدو عبد القادر" في بحثها "الإنسان في شعر محمود الماغوط"، كان هذا الحزب نقمة كبيرة عليه وسببا في سجنه. أما حادثة سجنه فقد "أزّمت في ذهنه وتركته فريسة نشوتها التّي اسـتبدّت برغبتـه بالبطولـة وقد سجن للمرّة الأوّلى عـام 1955، وأمضـى تسعة أشهر، وفي عام 1961 أمضى ثلاثة أشهر، وكان معيار تأثّره أنّ السّجن هو مكانٌ للمجرمين والسارقين، أمّا هو فقد سجن من أجل فكرة، أو انتماء لا يعترف بمبادئه، لأنّه لا يعرفها أبدا، لذلك بدا أثر السجن كبيرا في نفسه وذاته التي أخذت لا تعرف الهدوء، وأخذ يدين الأمّة كاملة.
وعبّرت زوجة محمد الماغوط الشـاعرة سنية صالح "كان يرتعد هلعا إثر كل انقلاب مرّ على الوطن، وفي أحدها خرجـت أبحث عنه، كان في ضائقة قد تجرّه إلى السجن أو ما هو أمرّ منه، وساعدني انتقاله إلى غرفة جديـدة ، في إخفائه عن الأنظار، غرفة صغيرة ذات سقف واطئ حشرت حشرا في خاصرة أحد المبـاني"،ففي هذا القول تبيّن سنية صالح كل ما أثّر به في السجن من هلع، كالاختباء في غرفة وقد وصـفتها، وفي هذه الغرفة كتب مسرحيّة العصفور الأحدب.
أمّا محمد الماغوط يتحدّث عن السجن الذي ولّد فيه الخوف والرّعـب والعزلـة : "كـابوسٌ كرّهنـي عمري.. وما في غير أن أشرب وأشرب.. لكن أشدّ ما يخيفني فيه أن أعود إلى بيتي يومـا فأجـد أنّ كتبي قد سرقت" وهذا ما جعله يبتعد عن الحوارات وآلات التّسجيل والمقابلات إذ يقـول: "أنا أكره الحوار الرّسمي وأحبّ الكلام المباشر مع النّاس فهذا يؤرّقني ويربكني.. ولا أرتاح لرؤيـة من يحمل ورقة وقلما وهو جالسٌ أمامي، وكأنّه محقّقٌ أمنيٌّ من جماعة عبد الحميد السرّاج"، وذلك لأنّه يتوجّس من الأمن، وهذا ما أثّر في حياته الشخصيّة اليومية التي يعيشها.
أثناء وجوده في السجن كتب الماغوط قصيدة "القتل" فكانت بدايته الأدبيّة، بعد تعرّفه على أدونيس داخل السجن. وهذه القصيدة أخذت خمس عشرة صفحة من ديوان "الحزن في ضوء القمر"، فكانت إسـقاطا من الحالة النفسية للشاعر الذي كان في موضع لا يحسد عليه وهو في "السجن". إذ خرجـت قصـيدة مفعمة بدلالاتها النّاتجة عن شحنة من الانفعالات الجسديّة والنفسيّة، مغلّفة بالخوف والرّقّـة والعتاب، وفي حكائيتها الغنائيّة حركةٌ منفعلةٌ في استحضار صور صادمة جاءت كلّها للتّعبيـر عـن صدق مشاعره التي يحسّها، فتصبح رمزا للقهر والألم، وصراعا مع الواقع وسخرية منه، فكلّ فنّـان يحاول إيجاد نقطة يلتقي بها العالم الخارجي، فالسجن كان سببا في خلق تصدّع بين أناه الذاتية وبـين النّحن "الاجتماعية/المجتمع"، فاضطربت "أنا" الشاعر، وتأزّمت في محاولة جديـدة لإيجاد صلة للتّواصل مع العالم الخارجي، ليحمل تجربة خصبة وتصبح أحد المحاور التّي يستند عليها شعره.
تروي هذه القصيدة حكاية إنسان داخل السّجن وهو الماغوط نفسـه، فاسـتخدم فيهـا مونولوجـه
الدّاخلي وحكاية الخطاب بدءا من بداية القصيدة إذ يقول:
"ضع قدمك الحجريّة على قلبي يا سيّدي
الجريمة تضرب باب القفص
والخوف يصدح كالكروان
ها هي عربة الطّاغية تدفعها الرّياح
وها نحن نتقدّم
كالسّيف الذي يخترق الجمجمة.
ويستمرّ الشاعر في وصف هذه الحالة المأساوية ويقدم المحتوى النفسي فيقول:
أيها الجراد المتناسل على رخام القصور والكنائس
أيّتها السهول المنحدرة كمؤخّرة الفرس
المأساة تحني كالرّاهبة
والصّولجان المذهّب ينكسر بين الأفخاذ
كانوا يكدحون طيلة الليل
المومسات وذوو الأحذية المدببة
يعطرون شعورهم
ينتظرون القطار العائد من الحرب
قطار هائل وطويل
كنهر من الزّنوج يئنّ في أحشاء الصقيع المتراكم
على جثث القياصرة والموسيقيين
ينقل في ذيله سوقا كاملا
من الوحل والثياب المهلهلة
ذلك الوحل الذي يغمر الزنزانات
والمساجد الكئيبة في الشمال
الطّائر الذي يغنّي يزج في المطابخ
السّاقية التي تضحك بغزارة
يربّى فيها الدّود
تتكاثر فيها الجراثيم
كان الدّود يغمر المستنقعات والمدارس
خيطان رفيعة من التّراب والدّم
تتسلّق منصّات العبودية المستديرة
تأكل الشاي وربطات العنق، وحديد المزاليج
من كل مكان، الدّود ينهمر ويتلوى كالعجين،
القمح ميّت بين الجبال
وفي التّوابيت المستعملة كثيرا
في المواخير وساحات الإعدام
يعبّئون شحنة من الأظافر المضيئة إلى الشّرق
كانت عجلات القطار أكثر حنينا إلى الشّرق،
يلهث ويدوي ذلك العريس المتقدّم في السن
ويخبط بذيله كالتّمساح على وجه آسيا.
كانوا يعدّون لها منديلا قانيا
في أماكن التعذيب
ومروحة سميكة من قشور اللحم في سيبيريا
الشاعر محمد الماغوط
واستطاع محمد الماغوط بمقدرته الخياليّة بناء صور جسّدت اللحظات الدقيقة التي تحصل في السـجن، فصـوّر حالة المسجونين كالرّمل، وصوّر اللحظات المرعبة التي عاشوها مع الشاعر، والتي كانت مـن أشـد اللحظات التي أثّرت في نفسه وقلبه وامتعضت منها روحه، كما وقف أيضا عند السجّانين فيقول:
شفاه غليظة ورجال قساة
انحدروا من أكمات العنف والحرمان
ليلعقوا ماء الحياة عن وجوهنا
كنّا رجالا بلا شرف ولا مال
وقطعانا بربرية تثغو مكرهة عبر المآسي
هكذا تحكي الشّفاه الغليظة يا ليلى
سأحدّثك عنها ببساطة وصدق وارتياح
ولكن ألا تكوني خائنة يا عطور قلبي المسكين
ونرى الماغوط يدخل عالم السجناء، فيصف عذابهم وينقل آهاتهم لنا عبر صور موحية مـؤثّرة،
فيقول:
[ إنّني رجلٌ من الصّفيح
أغنية ثقيلة حادّة كالمياه الدّفقه
كالصهيل المتمرّد على الهضبة
لتنقل صرخة الأسرى وهياج الماشيه
في المقصورات الدّاخلية ثمّة عويل يختنق
ثمّة بسالةٌ مضحكةٌ في قبضة السّوط
الأنوار مطفأةٌ.. لماذا ؟
القمر يذهب إلى حجرته
قشٌّ يلتهب في الممرّات
آلاف العيون الصّفراء
تفتش بين الساعات المرعبة العامّة
عن عاهرة، اسمها الإنسانية.
وفي شعر يتعرض الماغوط عن تعذيب السجناء مـن قبل السجانين، ووصف حالة المشهد المؤثّر بسوداوية قاتمة، ينشئ عليهـا ظـلال الحـب والرّحمـة الإنسانيّة التي اختفت على أيدي هؤلاء السجّانين. فالأنوار مطفأة والقمر يذهب إلى حجرته، وهو ابتعاد الحلم عن عينيه، والقشّ يلتهب في الممرّات، بما في هذه العبارة من حسرة علـى المسـاجين الـذين يحترقون في الممرات كالقش لا ثمن لهم ولا كرامة، وآلاف العيون التي طالها الرّعب والقذارة تفـتّش عن لحظة إنسانية، التي استهزأ الشاعر منها، فالإنسانية تقدم للإنسان (الكرامة) وهؤلاء يبحثون عنها، وبما أنها غير موجودة نعتها الشاعر بالعاهرة لأن الكل يحاول اغتصابها وامتهان جسدها مدّعيا صونها والحرص عليها. بعد هذه الوقفات والعوالم الشعريّة التي رسمها في لوحة تشكيليّة متكاملة، يقول:
دع الهواء الغريب
يكنس أقواس النّصر، وشالات الشيوخ والرّاقصات
إنّهم موتى
حاجزٌ من الأرق والأحضان المهجورة
ينبت أمام الخرائب والثياب الحمراء
وذئاب القرون العائدة بلا شارات ولا أوسمه
تشق طريقها داخل الدّم
تموت على الرمال البهيجة الحارّة
لاشيء يذكر الأرض حمراء
والعصافير تكسر مناقيرها على رخام القصر.
وداعا، وداعا إخوتي الصغار
أنا راحلٌ وقلبي راجعٌ مع دخان القطار.