العالم يتنفَّس من رئة مصر
صيحاتٌ تتعالى في أقصى المشارق والمغارب، فهُناك سفينة جنحت وانحرفت عن المسار وعطلت حركة الملاحة في قناة السويس، ومصر لن تكون قادرة على التعامل مع الموقف. أحكامٌ صدَرت بالفشل من كل حدب وصوب، وسهام أطلقها خبثاءٌ من «قوس العداء» تجاهَ أمةٍ أقدم من التاريخ نفسه، فالـ"إيفر جيفن" ذات الـ400 طن علَّقت حركة التجارة العالمية ووضعتها في مأزَقٍ، و«القاهرة» جراحها الدامية لا تجعل جسدها قادرًا على المقاومة وإصلاح ما أفسدته الرياح وخطأ القبطان.
سبعْ أيامٍ عجافٍ عاشتها مصر وبالتحديد في المنطقة التي كُتب عليها أن تلاحقها الأزمات، ورجالها دومًا آياتٌ من التحدي، سبع أيام عجاف وليس لدينا «يوسف ابن يعقوب»، وزمنَ المعجزات ولّى، ولكن أبناء الأمة التي هزمت الدهرَ وبقيت رغم الأقدار والمؤامرات، جلبوا «السبع السمان» بكراكات وقاطرات سارت في المياه كولي صالحٍ يُبرِئ كل عليل، وينثر بركات الله في القلوب.
إبّان تلك السبع العجاف اكتشفنا أن السفينة البنمية ليست وحدها التي جنحت، فضمائر كُثُر جانحة، ونوايا كُثر جانحة، ووطنية كثرين أيضًا جانحة، فطالت مصر نيران التشكيك والاستهانة بل والتحقير، وشرعَ ثقيلو الظل في إطلاق النكات ساخرين من الحدث ومن تعاطي القاهرة معه، وبدأ آخرون تأكيد أن الدولة لن تستطيع «تحريك البنمية» إلا بجهود ومعدات وعقول أجنبية، وكأن الأرضَ التي أنجبت العلْم والفكر عَقرت وبات بطنها بورًا ورحمها قاحلًا.
أولئك قالوا إن مصر بلا كفاءات، وهؤلاء تمنوا في صدورهم أن تستمر أزمة السفينة بلا حل يلوح بالأفق، حتى وإن نطقت شفاهم عكس ذلك، العديد من الأشخاص بدأوا الحديث عن ممرات ملاحية بديلة، مشيرين إلى أن قناة السويس لا تصلح للملاحة ولا رجل فيها بإمكانه إدارة العملية التجارية الدولية بنجاح، والغريب أن من سلفَ ذِكرهم مصريون، والأغربَ أنهم يثقلون آذاننا صباحَ مساءٍ بشعارات الوطنية وأناشيد النضال لأجل الحق، وكأن في أمنيات الخراب نفعًا، وأن الجهاد في سبيل الحق يُمكن أن يسلكه المرء بدعوات الهلاك والشر.
السبع العجاف ولّت مدبرة، والأيام السمان أضحت واقعًا، العمال المصريون استدعوا روح أجدادهم وسطروا ملحمة، فأولئك الفراعنة علموا العالم أن المستحيل ليس مصريًا، وهؤلاء المناضلون على رمال "الكنال" سطروا آياتًا من حب الوطن كمرجع إنساني وتاريخي للشعوب.
القاطنون في "الكنال" أعادوا إنشاد أغنية الكابتن غزالي، أحد أبرز رموز المقاومة في السويس، حينما قال "عضم اخواتنا نلمه نلمه.. نسنه نسنه.. ونعمل منه مدافع وندافع ونجيب النصر هدية لمصر"، وتعالت أصوات قلوبهم بأغنية أحمد فؤاد والشيخ إمام "مصر يامة يا سفينة.. مهما كان البحر عاتي.. فلاحينك ملاحينك يزعقوا للريح يواتي"، ودحضوا كل أمنيات الشر لهذا البلد، وأسقطوا كل عدوان مستتر قتيلًا أسفل كراكاتهم وقاطراتهم.
الآن وبعد انتهاء الأزمة، فلتفخروا بما صنعت آيادي المصريين، لتخبروا أبناء الكوكب العجوز أن مصر صبية لا تشيخ ولا تعجز، ولتطمئنوا المرضى والعجائز والفقراء والمتسكعين على جنبات الطرقات والأثرياء في القصور أن احتياجاتهم ستصل في موعدها، فلتخبروا منتظري الطعام والشراب والملبس أن بضائعهم تمر عبر ممر آمن وعظيم، وأن التجارة العالمية لن تجد سبيلًا آمنًا سوى البلد الذي عرف العالم معنى السلم والأمن على أرضه، وأن العالم يُمكنه دائمًا التنفس من رئة مصر.